مسؤولية إدارة الصراع

آراء 2019/12/30
...

علي حسن الفواز
الصراع بشأن السلطة يحمل معه نوايا ومواقف متعددة، بعضها يتعلّق بالمصالح، وبعضها الآخر بالهيمنة، وبعضها الأكثر خطورة يتعلّق بالسيطرة على صناعة السلطة ذاتها.. تاريخ العراق السياسي حافل بأنواع غرائبية من هذا الصراع، وكثيرا ماكان الصراع دمويا ومرعبا، وأحسب أنّ تاريخ وجعه المستدام، ومِحن الحروب والازمات وصولا الى احتلاله عام 2003 كانت بسبب اوهام ذلك الصراع، وطبائع جماعاته الايديولوجية والعصابية والعسكرية..
تحليل سايكولوجيا هذا الصراع قد يكشف عمّا هو مسكوت فيه، وعن علاقة الصراع بطبيعة النظام السياسي، وبالمرجعيات الاجتماعية والثقافية، وبالخلفيات التي عملت على توجيهه واخضاعه لتأمين المصالح والهيمنة، ولبقاء السلطة تحت الرقابة 
دائما..
كما أن تحليل سايكولوجيا السلطة سيكشف لنا تناقضات كبيرة، وعن نزعات تغذّت فيها السلطة بالعنف والكراهية، وبما أسهم في تحويلها الى قوة غاشمة، لا وظيفة لها سوى السيطرة والغلبة واخضاع الاخرين لنمط افكارها ولعصابها الايديولوجي والطائفي والقومي، وهذا ما جعل تاريخ السلطة العراقية مشوها، وغامضا، لا تقاليد له، ولا قيم حاكمة تؤطّر عملها، ولا حتى مضامين اخلاقية يمكن الركون لها في التخفيف من غلواء الصراعات الدامية التي عاش تحت رعبها العراق السياسي.
إنّ نقد السلطة هو نقد للجوهر الميتافيزيقي لها، لأنها رهنت وجودها ومنذ عام 1958 الى مفاهيم متعالية وغائمة، مثل الشعب والثورة والأمة والحرية ومحاربة الاحتلال والفساد والخيانة، وغيرها من المفاهيم/ الشعارات التي لم يجن منها الناس سوى المزيد من الصراع والعنف والأضحيات..
الصراع ومظاهر الإكراه
ماتحدّث عنه الفيلسوف فوكو في مراجعاته النقدية والاركيولوجيا يكشف عن أنّ "مظاهر الاكراه والقهر والاقصاء" هي جزء من صناعة السلطة، وهي مظاهر انتقلت من هذه السلطة الى المجتمع، والتي قادتها لأنْ تكون مؤسسة القمع الكبرى، حيث اتسعت سجونها وأنماط قمعها ورقابتها، مقابل ضعفها في أيّة مواجهة عقلانية مع ازمات الصراع، باتجاه صياغة عقود سياسية واجتماعية مع المجتمع ذاته.. نظرة فوكو الفلسفية تدفعنا لمعرفة السلطة، ولمعرفة المجتمع، ولمعرفة المقموعين منه، فضلا عن قراءة المستقبل، أي المستقبل الذي يمكن أنْ يضمن علاقة آمنة بين السلطة والمجتمع، وعلى وفق الدستور والقوانين والحقوق وحتى على مستوى الاعراف، إذ باتت موضوعة السلطة في العراق بشكل خاص عنوان لأزمة دائمة، ليس لأنها سلطة إكراه، أو سلطة رقابة، بل لأنها السلطة التي لاعلاقة لها بمشروع بناء الدولة بالمعنى الوستيفالي، وبضرورة وجودها السيادي المستقبل، والحمائي في حماية المجتمع من غلو الصراع، ومن مظاهر الإكراه..
مقاربة السلطة ثقافيا قد يكون موضوعا مهما الآن، لعلاقة الثقافة بالانسنة، وبالمعرفة والقيم وبالانثربولوجيات التي تُفسّر تلك الانسنة وقيمها المتنوعة، ولعلاقة السلطة بالحاجة، وكلا الأمرين يتطلبان معالجات مهمة، على المستوى القانوني والمستوى السياسي، والاجتماعي، فضلا عن ضرورة تفعيل دور المجتمع المدني، ومراكز البحوث العلمية في الجامعات أو في المؤسسات المدنية الأخرى، ولأهداف تسمح بالمساعدة على تعزيز مسؤوليات تأهيل السلطة، وعلى تحسين أدائها، مقابل اثراء الفعل الثقافي على المستوى المؤسساتي، وفي ميادين الاجتماع والتعليم والتربية والسياحة والخدمات العامة..
إنّ مواجهة تاريخ الاكراه السلطوي لا يتم إلّا عن طريق توسيع مجالات المشاركة والمعرفة، واشراك المجتمع في صناعة تلك المشاركة والمعرفة، بما فيها المعرفة والمشاركة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وتخفيف القيود التي ارتبطت بشكل السلطة تاريخيا، بوصفها سلطة للأمن وليس للادارة والحماية، ومنها ما يتعلق بالحريات العامة والخاصة، وقطع الطريق على ايِّ شكلٍ من اشكال القمع والكراهية والتكفير، وفرض الرأي واختيار العقائد وممارسة الطقوس، وبإتجاه أنسنة المجتمع وبناء مؤسساته، وعدم القبول بالقيود التي تفرضها جماعات معينة على حساب المجتمع، وهو مايجعل حيوية المجتمع رهينة بحيوية السلطة في مؤسساتها وفي برامجها وانظمة عملها وفي خدماتها، ورعايتها للاجتماع الثقافي والمدني والتعليمي والعلمي...
 
العراق الجديد وأسئلة الصراع
توصيف العراق الجديد هو ضرورة لتعريف السلطة أولا، ولتعريف الخطاب السياسي ثانيا، واعادة النظر بتاريخ الصراع غير العقلاني ثالثا، فضلا عن اهمية تخليص السلطة من عقلها الاداتي القمعي المغلق، وباتجاه صياغة عقلٍ تواصلي لها يقوم على المشاركة الواعية، وليست المشاركة بوصفها خضوعا وطاعة..
هذا التوصيف هو الحافز لإثارة الأسئلة حول تاريخ الصراع السياسي في العراق، وارتباطه بأنماط الاستبداد الذي هيمن على السلطة طوال عقود، واصطنع له مؤسسات تابعة، وخطابا تابعا، وجماعات سرية تابعة للقمع ولادارة ملفات سرية، ومنها الملف الثقافي، حيث وضع الحريات والحقوق داخل قيود محددة، وضمن تآويل سياسية تغوّلت فيها سلطة الرمز، والمقدَّس، والايديولوجيا والزعيم القائد، حدّ أنه صرّح بإلغاء اي تداول للتنوع الثقافي والديموغرافي، وجعل الجميع في اتجاه واحد، وأن توجّه هذا الصراع محكوم ايضا بخيار واحد وبعدو واحد وبمنظور واحد.
فرضية الخيار الواحد، هي فرضية السلطة القديمة، المستبدة والمتعسكرة والمتأدلجة، والتي لم تستطع أنْ تواجه قدرها، ولا أنْ تجد شعبا يحميها في صراعها مع العدو الذي توهمته واختارته، ومن هنا نجد أنّ الحديث عن العراق الجديد هو رهين باعادة قراءة كثير من المفاهيم، لاسيما تلك التي تتعلق بالصراع والسياسة والحكم والخيارات، لا سيما اعادة النظر بالتنوع والتعدد الذي يعزز قيمة الأنسنة في المجتمع، وهو ماينبغي الوقوف عن معطياته، لأنّ الاعتراف بالتنوع هو اعتراف بالخيارات المؤنسنة، وبقيمة المجتمع، وبالحاجة الى الدولة الانسانية المؤسساتية التي تحكم الجميع على وفق القانون والحقوق، وعلى وفق العلاقة التفاعلية والتواصلية بين الديموغرافيا ذاتها مع السلطة التي تمثل الجهاز التنفيذي في الدولة.