دانيال بولانجيه
ترجمة: جودت جالي
في ذلك اليوم كنا أنا وزوجتي خارجين للتنزه في أنحاء الريف حول (بايو) حيث أشجار السنديان المقطوعة تشبه الأشجار التي في المنسوج الشهير*. حوالي الرابعة عصرا اتخذنا دربا ضيقا مفروشا بالأوراق يؤدي الى كنيسة تاون القديمة التي تنتصب مثل مزار ضائع في الغابة وتمددنا عند واحدة من شواهد قبور ثبتت على جانب واحد.
لم يكن يوجد متمشٍ واحد، ولا طائر واحد، لا شيء سوى صمت مثل صوت الماء وسماء منبسطة انبساط ورقة زنبق طافية. عندما عدنا الى الطريق حيث تركنا سيارتنا مررنا برجل ربما كان في الستينيات من عمره جالسا عند الضفة وبين ساقيه مظلة طويلة. حدق الينا من خلف أنف أحمر مشعر، يرتدي ملابس يوم أحد ثقيلة-سترة سوداء وقد ارتفعت حوافها وزوج حذاء طويل الرقبة ذي عقبين صلدين ملفوف حول قصبة ساقيه. همست زوجتي وقد دهشت لرؤيته مهندما هكذا ودبوس ذهبي في ربطة عنقه وفي ذلك المكان النائي "لم أكن لأعترض على مشاهدة باقي الجنازة؟". كانت مخطئة بتصورها لوجود جنازة، ولكنها لم تخطئ كثيرا. تأمّلَنا جيدا بعينين كبيرتين جاحظتين، وشعر خفيف ملتصق بالعرق السائل على صدغيه، وقد أمسك قبعته بحوافها المطوية الى الاعلى والمظلة الطويلة بين ساقيه المتباعدتين. دخلنا السيارة وقلت له: "هل أستطيع مساعدتك بأية طريقة؟ أذاهب أنت الى القرية المجاورة؟ أدخل". أجاب: "لدي الكثير من الوقت". قلت: "آه. أعذرني". رفع المظلة وسأل: "زوجتك؟". أجبته: "زوجتي. نعم". كانت لكنته نورمانية وصوته جهوري لاذع قليلا، وقد ثبت عينيه على مقدمتي حذائه الكبير بسحابيه الدقيقين. صاح بنا: "كونا سعيدين". قلت: "نحاول". قال: "يكون الأمر أسهل حين تكونا اثنين معاً. كنت أنا اثنين ذات مرة. كانت لنا مزرعة صغيرة قرب فاليز ، وأبقار وابنة. الابنة في إنكلترا الآن مع رجل يعمل في منجم فحم. جاء في سنة 1944 مع الآخرين. لم تحبه زوجتي كثيرا. ذهبت الابنة معه في السنة التالية. كان خبير تأمين قنابل، وكان الألمان قد لغموا كل الأرض حول بيتنا فلم يبق سوى درب ضيق من البيت الى المغسل سارت عليه زوجتي ذات صباح بعربة اليد، ومع أنها سارت عليه ربما مئات المرات منذ الحرب، ولكن يا سيدي في ذلك الصباح... انفجر لغم. كل ما وجدته هو الملابس، الملابس التي كانت ذاهبة لتغسلها، والملابس التي كانت ترتديها أما هي فلم يبق منها شيء، تقريبا لا شيء. هكذا بقيت وحيدا. بعت الأبقار أولا إذ لم تستطع ابنتي أن تتعهد شؤوننا وهي لم تحب هذه الأنحاء أبدا. أنا أشيخ ولا أستطيع البقاء هكذا، ولهذا أجول منذ سنتين في المنطقة للعثور على رفيقة لي. ذهبت حد البحر، الطريق كله الى (ليجل)، دائما على الأقدام. أراقب.. الطرق الصغيرة، الطرق الكبيرة، وعندما أرى امرأة وحيدة، تقاربني في العمر، أبدأ محادثة، وقد كاد الأمر ينجح ذات مرة. لن تصدقاني إذا قلت لكما بأنها جارتي في الجانب الآخر من فاليز، وأنا قطعت ثمانمئة أو تسعمئة كيلومتر على الأقل بحثاً عن امرأة. غير أن المحاولة لم تنجح مع ذلك. قالت بأني سأظل دائما أفكر بالمرأة الأخرى، بزوجتي المتوفاة. هي أرملة أيضا ما عدا أن زوجها لم يمت بلغم، ولكنه مات في سيس، من سقالة بناء. وفي مرة أخرى وجدت واحدة، تدير بارا صغيرا ولكن كان بمستطاعي أن أرى بأن لديها الكثير من المعجبين، وهكذا تابعت طريقي، فلدي وقت، سأجد واحدة في النهاية". توقف عن الكلام رافعا حاجبيه. سألته: "ما رأيك بشراب في أقرب مكان؟". قال وهو يخرج نصف لتر من الكحول من جيبه: "لدي رفيق. هل تريد أن تجربه؟". سألته: "كم تسير يوميا؟" أجاب: "هذا يعتمد على الظروف. أحيانا عشرين، وأحيانا ثلاثين، وأحيانا أقل. يعتمد على ما أجد. أذهب الى القرى ولكن لا يوجد الكثير في القرى، المدن أفضل، غير أنك تحتاج الى وقت للمدن. لا أريد أن يفوتني أي شيء". قلت: "حسن. حظا سعيدا". قال: "أوه. ساقاي لا تزالان قويتين. لو فقط يعلمن! لدي إيمان غيوم". (لفظ الاسم غيليوم). قلت: "مثل ذلك الغازي؟" قال: " ومن نفس المدينة يا مسيو. عملوا تمثالا له، عليك أن تراه. كتلة صخر ضخمة من فوق الى ذيل الحصان. عمل عظيم". نظرنا الى بدلة الرجل العجوز. كان فعلا خاطبا ريفيا كاملا، ذا مشاعر، مهندما على أحسن ما يرام بذلك الدبوس الذهبي، وحاضرا لتقديم الخدمات و... قنينته، وسام خطيئته المجيد. أعاد اعتمار قبعته، يده أرجوانية اللون تقريبا من التقدم في العمر. قال: "سأجد واحدة. لقد خلقت لأكون اثنين". عندما غادرنا نهض. توقفنا ونحن في طريقنا قبيل أن يختفي عن أنظارنا خلف الحشائش العالية والحواجز، وأشرنا له إشارة وداع كبيرة، فرفع هو قبعته. قالت زوجتي بهدوء: "كونا سعيدين". أمسكت يدها.
===============
المصدر:
French Tales, stories translated by Helen Constantine, 2008
*Daniel Boulanger (1922-2014) كاتب وممثل فرنسي. المنسوج الذي أشار اليه ربما هو الذي يصور أمر (غوستاف غيوم) بقطع الأشجار في تلك المنطقة لصنع سفن يغزو بها بريطانيا سنة 1066.