عباس الصباغ
من الممكن ان نطلق على الحراك الاحتجاجي التشريني السلمي والمكفول دستوريا انه الربيع العربي الحقيقي الوحيد والذي جاء ببصمة عراقية ، وبعد أن اقترنت عبارة الربيع العربي مع عربة محمد البوعزيزي التونسي تلك العربة التي كسرت حاجز الخوف الممتد لعقود من الاستبداد والتخلّف والفقر والتهميش والهزائم القومية المدوية ، وبغضّ النظر عن مآلات الربيع العربي المؤسفة والمخيبة للآمال والذي استحال اغلب مفاصله الى صقيع عربي وزمهرير موحش ومرعب ولأسباب كثيرة أدت الى سرقة جهود وتضحيات الجماهير وانحراف بوصلة التغيير المنشود باتجاه اخر لم يلبِّ طموح الجماهير العربية المغلوبة على امرها والتوّاقة الى تغيير ايجابي وملموس ينتشلها من واقعها البائس الى واقع يليق بكرامتها ويوفر لها العيش الكريم والآمن ، فان الربيع العراقي الذي نعيش في غماره الان هو عكسُ ذلك فهو ربيع حقيقي ومزدهر وواضح المعالم مازالت مآلاته في طور التبلور والنضوج فهو عراقي مئة بالمئة ، فضلا عن انه ربيع متحضّر وعقلاني ومسالم لم ينطلق بشعارات رومانسية او زئبقية فضفاضة لايمكن تحقيقها على ارض الواقع او بشعارات تخفي وراءها سيناريواً دموياً مدمّرا رغم ماترسّب في مخيال الشارع العراقي من سمعة سيئة اقترن بها الأداء الحكومي اذ لم تنفكّ متلازمة سياسي / فاسد عن الطبقة السياسية العراقية طيلة السنين المنصرمة . فالربيع العراقي الذي تجسّد في هذا الحراك المدني العفوي والتصحيحي المستند على وعي جماهيري بضرورة التغيير السلمي وعدم الركون الى الفساد بكل اشكاله ، لم يرفع شعارا انقلابيا او راية التسقيط وإلغاء العملية السياسية برمتها وتغيير الديكور السياسي بديكور آخر يتلاءم مع أمزجة البعض واجنداتهم التي قد تكون مريبة ولا تمتّ الى المناخ الوطني بصلة ، بل جاء لرفع الاختلالات والانسدادات التي أصبحت داء عضالا كـ (المحاصصة / التوافق التشاركي / الفساد) من الجذور ولم يطالب هذا الحراك بعملية تجميلية او ترقيعية لما تشوّه من وجه العملية السياسية، الوجه الذي يفترض به ان يكون جذابا جميلا ومحقّقا للحد الادنى من طموحات الجماهير في العيش الكريم فتمحورت الاهداف التي توخّاها هذا الحراك في تصحيح بوصلة العملية السياسية وانتشالها من مستنقع فشل التأسيس الدولتي التي قامت على اساسه وتنقيتها من اخطاء وخطايا سوء الإدارة والتخبّط الناتج عن قلة الخبرة وعدم النضوج السياسي الكافي لإدارة دولة مابعد التغيير النيساني، فالربيع العراقي هو ربيع الاستحقاقات التاريخية للشعب العراقي تلك التي لم يحصل على الحد الأدنى منها اذ لم يلمس وعلى مدى 16 سنة ونيف اية بادرة خير تلبّي ادنى طموحاته المشروعة ، ناهيك عن تفاقم الفساد المالي والاداري وسوء الخدمات العامة وغياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات الوطنية لعموم الشعب ، فحدث الانفجار التشريني الذي كان متوقعا في اية لحظة وقد وقع نتيجة الاحتقان المتولّد من استمرار المعاناة من طبيعة النظام السياسي الخاطئ والذي لابد من اصلاحه ليسير العراق على السكة الصحيحة ، فالإصلاح الحقيقي المنشود يبدأ من تصحيح مسيرة هذا النظام ولا يختلف اثنان من العراقيين على ان هذا النظام السياسي كان هو السبب الرئيس في انعدام ثقة الشارع العراقي بالعملية السياسية والمتخم بالمعاناة جراءها ، فهذا النظام هو جوهر المشكلة التي ادت الى هذا الانفجار المدوّي .
طموح الربيع العراقي كان ابعد من الشعارات التي رُفعت في ثورات مايسمى بالربيع العربي كشعار (الشعب يريد اسقاط النظام) ، لان اسلوب النظام السياسي الخاطئ يبقى لب المشكلة وسبب اهتزاز ثقة الشارع بالعملية السياسية او انعدام ثقته بها تماما ، وهو مايفسّر الاحتقان المتكرر للشارع العراقي، فهذا النظام بحاجة الى اصلاحات اكبر واعمق واشمل من اجراءات ادارية ترقيعية وفي جميع المجالات لإعادة الثقة الى الشارع العراقي بعمليته السياسية من جديد وهو ماينشده الحراك الجماهيري الغاضب الذي اندفع تحت شعار (نريد وطن) وهو ابسط مطاليب الشارع ، ويبقى طموح الشارع العراقي يتجسد في إقامة حكومة مؤسسات في دولة مدنية عصرية تتمتع بالحكم الرشيد وهو الحكم ـ حسب الموسوعة الحرة ـ الذي يعزّز ويدعم ويصون رفاهية الإنسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرّياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى تمثيل جميع فئات الشعب تمثيلا كاملا وتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع أفراد الشعب ، وتحقيق الحكم الرشيد هو غاية الربيع العراقي . وهو مايأمله العراقيون جميعا.