أمام بغداد فرصة أن تأخذ مكانتها الحقيقيّة لتكون العاصمة العربيّة الأولى في الاحتفاء بالصحافة الثقافيّة وديمومتها، بعد أن غابت شمس الصحافة الثقافيّة في لبنان وتراجعت في مصر، واختفت أو كادت أقسام الثقافة من الصحف العربيّة في بلدان أخرى.
وحلّت مكانها أخبار خفيفة عن النجوم والفن وشؤون المجتمع وما إلى ذلك، وخُنقت معظم المجلّات الثقافيّة في كلّ مكان حتّى في بعض دول الخليج، التي أخذت تعاني من شحّ الدعم هي الأخرى.
ويبدو أنّه في الفسحة المتبقية من عمر الصحافة الورقيّة، التي تضمحل في العالم كلّه، ستظلّ صحافتنا الوحيدة التي تحتفي بالثقافة والأدب في صفحاتها، وهي في سبيلها لأخذ زمام المبادرة لإيجاد بدائل لها، مستفيدةً من تكنولوجيا العصر.
إنَّ الاحتفاء العراقيّ المتعدّد الوجوه بالحدث الثقافيّ ونشاطاته المتنوّعة، وبالكتاب بوصفه أداة النقل التقليديّة للمعرفة، وهو حالة مكرّسة في بغداد ومعظم أمّهات مدن البلاد منذ عقود، تعزّزَ على نحوٍ مدهشٍ في السنوات الأخيرة، بانتقاله من الدائرة الضيّقة للنخب إلى قطاعات مجتمعيّة مختلفة بعد تحسّن الأوضاع الأمنيّة، من خلال بروز أكثر من موئل ثقافيّ مفتوح للجميع في العاصمة، كظاهرة شارع المتنبيّ، التي امتدّت لتشمل معظم مدننا، كشارع الفراهيديّ بالبصرة، والرصيف الثقافيّ بالزبير، والرصيف المعرفيّ بالعمارة، وشارع أكد بالديوانيّة، وشارع كركوك الثقافيّ بكركوك، وشارع دجلة الثقافي بالكوت، وشارع الكتب بالناصريّة، وشارع طه باقر بالحلّة.. هذا الاحتفاء غير المسبوق بالثقافة، التي أفرزها اهتمام مجتمعيّ محض، يعطي زخماً هائلاً للصحافة الثقافيّة في بغداد وعموم العراق، ويرفدها بفرص تغطية متنوّعة لهذا الحراك الحيويّ بنشاطاته المتعدّدة، وهو أمر غير متاح بهذه الكثافة لأية صحافة ثقافيّة في سائر البلدان العربيّة.
تُضاف إلى ذلك ميزات أخرى ذات أهميّة حاسمة، تكاد تنفرد بلادنا باجتماعها فيها، كوجود العنصر البشريّ المتخصّص في إنتاج كلّ عناصر الصحافة الثقافيّة، وتراكم خبراته، بكثافة لافتة في بغداد وكبريات مدن العراق الأخرى وفي المهاجر القريبة والبعيدة، من صحفيّين أكفاء، ومحرّرين مؤهّلين، ومحاورين ذوي خبرة، وكتّاب وأدباء ومبدعين في كلّ الفنون، وباحثين ومفكّرين..، فضلا عن توافر أصحاب المهن الفنيّة الأخرى اللازمة لصناعة الصحافة الثقافية من مصوّرين ومصمّمين وتقنيّين، خلافاً لحال دول الخليج من جهة، وتوفّر الإمكانيّة الماليّة حتّى في ظروف عسر الحال الراهنة، خلافا لبيروت والقاهرة ودمشق وتونس وعمّان... من جهة ثانية.
وعلاوة على كلّ هذا ثمة ميزتان أخريان لا يكتمل إلّا بهما نجاح الصحافة الثقافيّة، هما: توفّر ظروف حريّة النشر نسبيّاً ربما أكثر من أي مدينة عربيّة أخرى، برغم التضييقات التي تجري هنا وهناك، ووجود سوق لاستيعاب منتَج هذه الصناعة ووفرة مستهلكيها.
هذه كلّها عوامل فريدة تسمح لبغداد أن تأخذ فرصتها المستحقّة في أن تكون عاصمة الصحافة الثقافيّة في العالم العربيّ، في وقت أصبح التواصل لحظوياً بين سكان الكوكب كلّه. فصحفنا برغم فقرها الحالي، وما تعانيه من ضائقة ماليّة خانقة، لعلّها الوحيدة عربيّاً التي ما زالت محافظة على تقاليدها الراسخة بوجود صفحات ثقافيّة متخصّصة ومنتظمة في كلّ عدد منها، على اختلاف توجّهاتها وتباين داعميها، فضلاً عن الملاحق الثقافيّة الأسبوعيّة لكثير منها، وهي الوحيدة تقريباً التي تُنشر فيها النصوص الإبداعيّة بكثافة، فضلاً عن المتابعات النقديّة، التي تشمل أيضاً الفنون التشكيليّة والمسرحيّة والسينمائيّة والعماريّة، فضلاً عن المقالات الأدبيّة والفكريّة، ورصد الأحداث الثقافيّة المتنوّعة.. وإن ظهور أكثر من مجلّة واعدة بجهود مجموعة من المثقّفين الشباب أو بعض دور النشر الصغيرة وبإمكانات ذاتيّة، في بغداد ومدن عراقيّة مختلفة، برغم الضائقة الاقتصاديّة والضعف الشديد في استثمار رؤوس الأموال بهذا القطاع، إنّما يكشف عمّا يختزنه هذا العراق المبدع من قدرات هائلة لو توفّرت للناشطين في هذا القطاع بعض الدعم والإمكانيّات، وجرى العمل على خلق بيئة جاذبة للاستثمار فيه لاكتمال العناصر الأخرى اللازمة لنجاحه وديمومته كالتسويق والتوزيع والإعلان، وهذه العناصر الثلاثة ما زالت بدائيّة للأسف على خطورة تأثيرها.
إن تعزيز دور بغداد الثقافيّ، وظهيرها من أمّهات مدن العراق الكبرى كالبصرة والموصل والنجف والحلّة وكركوك والناصريّة...، لا يتطلّب الكثير من المال، لكنّه يتطلّب جهداً كبيراً من الدولة والمنظمات المجتمعيّة ذات الصلة وأوساط المثقّفين، في التخطيط والتنظيم وتوظيف القدرات، وهو يوجب على وزارة الثقافة النهوض بواحدة من صميم مهامّها، أعني بها رعاية مجلّاتنا العريقة كالأقلام والثقافة الأجنبيّة والمورد والتراث الشعبيّ، التي تهمل اليوم برغم أنّ معظمها عبرت حاجز النصف قرن من عمرها، ودعم إداراتها بكلّ مستلزمات الصدور المنتظم، وتمكينها من التجديد والتطوير والتحسين شكلاً ومضموناً، وتشجيع كتّابها بمنحهم مكافآت مجزية، ليعاود منحنى دورة حياتها الارتقاء مرّة أخرى، هذا فضلاً عن ضرورة التخطيط لاستحداث صحف ومجلّات ثقافيّة أخرى متخصّصة.
ولضمان ديمومة دعم الدولة للصحافة الثقافيّة بعيداً عن مزاج الحكومات، سيظلّ من واجب الأدباء والمثقّفين والصحفيّين، ونقاباتهم واتحاداتهم وروابطهم، الضغط بكلّ الوسائل لوضع تخصيص ثابت في كلّ موازنة عامّة لدعم الثقافة ومشاريعها، ومن ضمنها الصحف والمجلّات المستقلّة، على أن يكون ذلك بمعزل عن التوجّهات الدعائيّة الضيّقة للجهات الحكوميّة.
بمثل هذه الخطوات، وهي ليست بصعبة التنفيذ، يمكن أن تمتلك صحافة بغداد ومدننا الأخرى وهجاً ثقافيّاً غير مسبوق، لتكون بمرور عدّة سنوات مراكز استقطاب ثقافيّة كبرى، تعرّف بثقافة البلاد، وتمنح المبدع العراقيّ ريادة مستحقّة له، كما تمنح وطننا مصدراً جديداً للقوّة الناعمة، في وقت يصنع شبابه وشابّاته في حراكهم السلميّ أملاً بالتغيير الشامل وآفاقاً تمنح لأحلامنا هذه مسوّغات طرحها.