الرجل الذي نسي اسمه

آراء 2020/01/06
...

حمزة مصطفى
 
لم أره سوى مرة واحدة، أبو مهدي المهندس رحمه الله الرجل الذي كان يضع الموت في راحة يده على مدى عقود. كان ذلك في ندوة أقامها إعلام الحشد الشعبي قبل نحو شهرين ونصف تقريبا حيث وجه لي الصديق صباح زنكنة دعوة كريمة للحضور. مع بدء الندوة طلب أن لا يتحدث هو أولا، بل يسأله الحاضرون ويتولى هو الإجابة بلا مقدمات طويلة. على ما أذكر كان مصابا بالزكام في وقت كان مبكرا من الخريف. بدأت الأسئلة وبدا لعدد من السائلين أن يبدؤوا  أسئلتهم قائلين .. حاج  جمال وهو اسمه في هوية الأحوال المدنية (جمال جعفر إبراهيم).  تكرر الأمر عدة مرات وكأن الحاضرين قد نسوا اسمه الذي اشتهر به (أبو مهدي المهندس) حتى ابتسم قائلا .. (تره آني نسيت إسمي) لكثرة ما بدا اللقب مشهورا لاسيما بعد أن ارتبط اسم المهندس بعمليات التحرير ضد تنظيم داعش خلال الاعوام 2014 ـ 2017، إذ كان كثيرا ما يشاهد الرجل وهو يفترش الأرض ويلتحف السماء في جبهات القتال.
ربما هذا يفسّر الموقف شبه الموحّد منه من قيادات وأبناء المناطق الغربيّة الذين عملوا معه أو شاهدوه كيف يقاتل داعش أو كيف يتعامل مع الناس بعد عمليات التحرير سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو سلسلة التداعيات أوالتبعات الاجتماعية لما بعد عمليات التحرير.
قبل الغارة الأميركية الأخيرة التي استهدفته ورحل على إثرها عن دنيانا على طريق مطار بغداد الدولي مع صديقه الجنرال قاسم سليماني وأطلق عليها الأميركان "البرق الأزرق" كنت بالمصادفة على مسافة قريبة من الزمن لاتتعدى العشر دقائق بين مروري مع ابني العائد من دبي حيث كنت أستقبله في مطار بغداد وبين العملية التي استهدفت المهندس ـ سليماني.
كان طريق المطار في تلك اللحظات خاليا وبدا موحشا، حيث لاسيارات ولم تعد ثمة طائرات تهبط في مطار بغداد. كان المفروض أن أكون مع ابني في المنزل قبل أكثر من ساعة ونصف من موعد التأخّر في المطار بسبب إجراء طارئ يتعلق بمجريات التفتيش. الموت غالبا ما يأتي فجأة وبلا أية مواعيد أو بروتوكولات. لا أحد يختار طريقة موته إلّا قلة من الناس ربما بينهم المهندس نفسه الذي كان وضع طريق الموت خلفه لا أمامه. بمعنى أنّه من النوع الذي لم ينسَ اسمه فقط، بل نَسِيَ الموت المتربّص به في أية لحظة والمتوقع في كل 
اللحظات.
حين مررت بطريق المطار الموحش ماعدا إضاءاته التي بدت خافتة تقريبا لم أكن أتخيّل أنّ طائرة "مسيّرة" كانت تختفي في مكان ما بين السماء والأرض تنتظر سيارة أخرى غير سيارتي الوحيدة التي كانت تنهب طريق المطار الخالي بسرعة متوسطة حيث عادتي الدائمة وهي التأني في السياقة.  ما أن دخلت المنزل الذي لايبعد عن المطار كثيرا حتى سمعت دويَّ أصوات مختلطة بين صاروخ 
وطائرة.
في عصر السرعة لم نعد ننتظر ماهو مخف أو بعيد. سرعان ما جاءت الأخبار عبر السوشيال ميديا. كانت الطائرة المسيّرة تستهدف سيارتين بعدي بزمن لايبعد عن زمن مروري وفي الشارع نفسه بعشر دقائق. كان في السيارة رجلان كلاهما كان يتوقع موته بـ "درون" أو بـ "برق أزرق" أو بدونه. كان أحدهما الرجل الذي نسيَ اسمه أبومهدي المهندس. بقيَ السؤال هل اختار الموت الاسم أم الكنية؟ لا فرق عند جمال جعفر لكن الموت قد يدوخ طويلا لكي يفرق بينهما.