خيار السياسات العراقيَّة .. برؤى واضحة

آراء 2020/01/06
...

علي حسن الفواز
 
الخشية على مستقبل العراق بات مشروعا، وحافزا للبحث عن حلول ومعالجات ومواقف لوقف هذه الخشية، ولتأمين ذلك المستقبل، ولمنع تعرض الامن الوطني العراقي لأخطار خارج السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن هذه الخشية تتطلب بالمقابل اجراءات عقلانية، وتوافقات سياسية، ورؤى واضحة من الجميع لدفع مكاره  تلك الاخطار..
ماحدث خلال الايام الماضية من وقائع امنية دامية، بدءا من  احداث قصف منطقة  "الكي وان" في كركوك، وقصف معسكرات الحشد الشعبي في منطقة القائم، وكذلك التظاهرات ضد السفارة الاميركية في بغداد، والدخول الى بعض مرافقها، وانتهاء بجريمة اغتيال الشهيدين ابي مهدي المهندس وقاسم سليماني مع قادة آخرين قرب مطار بغداد، يؤشر تصعيدا في طبيعة تلك الاخطار، وفي تحويل الصراعات السياسية الى صراعات عسكرية، ووضع العراق والمنطقة عند مرجل النار، وهو مايعني توسيعا لمساحة المأزق الذي ستقع فيه حسابات الحرب والسياسة، فضلا عن تضخم طبيعته التهديدية لمستقبل العراق.
اغتيال الشهداء تصعيد عسكري لا مُبرر له سوى الافصاح عن طبيعة السياسة التي تقف وراءه، وعن نوايا ادارة الرئيس ترامب لفرض تصوراته السياسية والامنية، وحتى الانتخابية على الواقع، وعلى الجمهور الانتخابي الاميركي، وتحت يافطات وعناوين توهم المجتمع الاميركي والآخرين بأن ما يجري هو دفاع عن النفس ضد "العنف الاسلامي" وقطع الطريق على احتمال قيام الجماعات الاسلامية باعمال عنف ضد المصالح الاميركية !!
فرض نظرية القوة المفرطة، وبهذه الطريقة العدوانية، يكشف عن نزوع سياسي، وتوجّه لا يؤمن بخيار الحلول الواقعية لما يحدث في الشرق الاوسط من مشكلات، وأن حديث الرئيس ترامب ورفضه لفكرة الحرب مع ايران، يتناقض مع مايجري على الارض، فاغتيال قائد عسكري ايراني، وقائد عسكري عراقي، وفي منطقة لا تحمل صفة عسكرية، يكشف عن طبيعة الحسابات والاهداف التي تضعها الولايات المتحدة، بقطع النظر عن تداعياتها، وعلاقة ذلك بسيادة الدول، أو بتأثير ذلك على صناعة الازمات والحروب وردود الفعل التي قد تحدث هنا أو هناك...
 
غياب الثقة.. غياب الحوار
اختلاف التوجهات والمواقف الاميركية عن الايرانية يُعدٌّ من أكثر الاسباب الداعية لتضخيم الازمات، وأن ما يترتب على هذا الاختلاف من مواقف سياسية وامنية، يدفع باتجاه تحويل الجغرافيا السياسية الى ساحة حرب، والى مجال لتغويل الازمات، والى العودة باتجاه  سياسة "الاستعمار" عبر فرض لعبة الاخضاع، والاضعاف، وعبر تدويل الازمات، ووضع فرضية القوة والتهديد كسياق عام للتعبير عن فكرة القوة الاميركية، بكل ماتحمله من هوس واستعلاء وغرور، ومن سياسات احتواء وحماية، وبما يضمن شرق أوسط "مؤمرك" وخاضع، وتتأمن فيه مصالح اسرائيل في المنطقة، فضلا عن الترويج لشعار حماية المصالح الاميركية وحماية الاصدقاء الذين تعنيهم السياسية الاميركية.
إنّ غياب الثقة بالسياسة الاميركية هو السبب الواضح والواقعي في غياب الحوار معها، أو جعل مفهوم الحوار طريقا لاخضاع الاخرين والسيطرة عليهم، إذ لا تقبل الولايات المتحدة بالحوار مع نظراء لها، بل بتابعين أو خائفين، والذين لا خيار لهم سوى الرضوخ لمشيئة السياسة الاميركية، ولما تمتلكه من اسباب القوة، ومن ترسانة الحرب المدمرة، ومن العنف الشمولي العابر للدول.
كما أن غياب الثقة بتوجهات السياسة الاميركية ينطلق من عدم التزامها بالمواثيق الدولية، والحدود الاخلاقية للحرب وبقواعد الاشتباك التي يعرفها العالم ومنظماته الدولية، فضلا عن أن هشاشة حواراتها تضع الدول أمام غياب صدقيتها السياسية، فالولايات المتحدة، وعلى لسان كثير من مسؤوليها، ومنهم الرئيس ترامب يتحدثون عن عدم الرغبة بالحرب، وانهم يريدون حوارا جديدا مع ايران، لكن الواقع يدحض هذه النوايا، ويكشف عن أن تعطيل فكرة الحوار لها علاقة بالاجندة الاميركية وبسياساتها، ولا علاقة لها بالرغبة بالحوار من عدمه، وأحسب أن عملية اغتيال قائدين عسكريين عراقي وايراني، وعلى ارض عراقية، وبتوجيه مباشر من الرئيس ترامب يكشف عن جوهر تلك السياسة وغلو توجهاتها..
 
الحرب ليست هنا..
قد يكون حديث الحرب أقرب الى المثيولوجيا، وجزءا من حكاية التاريخ، لكن السؤال الذي يربط منطقتنا بمنطق مثل هذه الحرب، هو الذي يستدعي ربط علاقة الولايات المتحدة بهذه الحرب المثيولوجية، وتحت فرضية ايهامية تقوم على محاربة "العنف الاسلاموي" وهو مايعني توصيفا ايديولوجيا لهذه الحرب، وادلجة لكل الممارسات والاعمال القتالية التي تقوم بها الولايات المتحدة، ولعل ما قدمته من تفسير لعملية اغتيالها القائدين الشهيدين ليس بعيدا عن تلك الفرضية، فعدّها وزير الخارجية الاميركي بومبيو بأنّها "عملية قانونية" وعدّها الرئيس "ترامب" بأنها دفعٌ لخطر عنف قادم.
اختيار الارض العراقية لاغتيال الشهيدين له ابعاده الرمزية، وله اسبابه السياسية، فما يؤشره المكان العراقي من علاقة خاصة مع دورهما بالحرب على داعش، يضع تلك الحسابات في سياق من يريد قطع مسار فاعل في تلك الحرب، وعبر وضع كلّ خياراتها في السلّة الاميركية، وأنّ قواتها وقوات التحالف هي القوة المطلقة لمواجهة داعش، ولرسم السياسات الخاصة والحسابات الخاصة مع هذا العدو السياسي والايديولوجي..
لقد بات واضحا بعد هذه العملية ماهي النوايا الاميركية، والى ايّ اتجاه تريد أن تأخذ المنطقة، وأن تضعها تحت وصايا سياسات ستراتيجية، بعيدا عن اية تحالفات ضدية، ولخيارات اقليمية، إنْ كانت مع ايران او روسيا أو حتى مع جماعات وقوى محلية لها حساباتها السياسية التي تختلف عن الحسابات الاميركية.