عبدالزهرة محمد الهنداوي
تمثلُ حماية المستهلك أولويَّة أولى لكل بلدان العالم، لأنها في نهاية المطاف تعدُّ البوابة الأوسع لإغلاق الأسواق المحليَّة بوجه أي منتج أو سلعة قد تتسبب بضرر للمستهلك، ومثل هذا الإجراء سيؤدي بالضرورة الى وضع سياسات استيراديَّة وصناعيَّة وتجاريَّة لحماية السوق، وبالتالي حماية الاقتصاد الوطني من حالة الانكشاف الاقتصادي
الناتجة أصلاً عن عدم قدرة الدولة على مواجهة المتغيرات الخارجيَّة في أسعار الصادرات والكميات المطلوبة من السلع المستوردة، إذ يبقى الاقتصاد في مثل هذه الحالة رهيناً بما تشهده الأسواق العالميَّة من تقلبات لأي سببٍ كان. ومن هذه النافذة ندخل الى السوق العراقيَّة وما شهدته من غزو سلعي واسع النطاق بعد العام ٢٠٠٣، نتيجة النزعة الاستيراديَّة المتحكمة، وتعطش المستهلك العراقي لكل شيء، ومع رفع الغطاء عن الاستيراد، وفتح المنافذ الحدوديَّة ببحرها وبرها وجوها للاستيراد، فقد عانى الاقتصاد العراقي من حالة انكشاف خطيرة، بعد أنْ غابت حالة التوازن بين قدرتنا الاقتصاديَّة الداخليَّة وميزان التجارة الخارجيَّة.
وأمام هذا الانكفاء والانكشاف، كان لا بدَّ من رسم سياسة وقائيَّة واتخاذ إجراءات حمائيَّة مزدوجة يمكن من خلالها حماية السوق والمستهلك وتمتين الاقتصاد، مع الأخذ بنظر الاعتبار، أنَّ بلدان العالم تتكامل في ما بينها اقتصادياً، ولا يمكن لأي بلدٍ في هذا الكوكب، مهما كانت قوة ومتانة اقتصاده، أنْ يقوم بحاله، فهو بحاجة الى الدول الأخرى.
وقد صدرت في هذا الإطار مجموعة من القوانين المهمة، من بينها قانون حماية المستهلك وحماية المنتج والتعرفة الگمرگيَّة، وكان ذلك عام ٢٠١٠، إلا أنَّ تلك القوانين لم تُفعّل في حينه، الأمر الذي فاقم المشكلة، وفي العام ٢٠١٢ اتخذ الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعيَّة خطوة عُدت مهمة عندما جرى التعاقد مع شركات عالميَّة تتولى عمليَّة الفحص في بلد المنشأ للسلع والبضائع المستوردة للعراق، وشملت عمليَّة الفحص نحو ٩٣٠ سلعة، وعلى الرغم من الملاحظات المسجلة على العمليَّة ومع وجود محاولات من هنا وهناك لإفراغها من محتواها. إلا أنَّ المراقب والمتابع يستطيع القول إنَّ هذا الإجراء أسهم في تحسين جودة البضائع الداخلة الى الأسواق العراقيَّة، ولكن ليس بمستوى الطموح، فقد كانت هناك تحديات من بينها كثرة المنافذ الحدوديَّة سواء كانت الرسميَّة منها أو غير الرسميَّة، وعدم خضوع منافذ إقليم كردستان العراق الى ذات السياقات المتبعة في باقي المنافذ، وكذلك تعدد السلطات التي تدير شؤون المنافذ، ومحاولات بعض المستوردين التهرب من الفحص بهدف إدخال منتجات غير مطابقة للمواصفات، فضلاً عن تسجيل بعض الملاحظات عن أداء قسم من الشركات الفاحصة، الأمر الذي أدى الى إنهاء التعاقد معها.
في ظل هذا المشهد كانت الحال تتطلب أنْ يتولى الجهاز المركزي للتقييس عمليَّة التفتيش والفحص للسلع المستوردة والمحليَّة على حد سواء، ولكن ضعف الإمكانات وتوقف مشروع إنشاء مختبرات حديثة في المحافظات ذات المنافذ الحدوديَّة، حال دون ذلك، وفي مثل هذه الحال لا بدَّ من وجود آليات وإجراءات يمكن من خلالها المحافظة على سلامة المستهلك والمنتج المحلي، ودعم الاقتصاد الوطني، والإجراء المناسب هنا هو الإعلان عن جولة تراخيص جديدة لاختيار مجموعة من الشركات العالميَّة تتولى عمليَّة التفتيش قبل التوريد في بلد المنشأ، وفق آليات يمكن من خلالها ضمان نجاح العمليَّة، ومن مؤشرات النجاح التي ينبغي أنْ تتحقق، إنهاء عمليات التأخير للسلع والبضائع المستوردة في المنافذ الحدوديَّة التي طالما عانى المستوردون منها نتيجة الأسباب التي أشرنا إليها
آنفاً.
مما لا شك فيه إنَّ مهمةً بهذا الحجم وهذه السعة لن تستطيع جهة بعينها أداءها وتحقق النجاح المطلوب، إنما ينبغي أنْ يكون هناك تعاونٌ عالي المستوى بين كل الجهات ذات العلاقة، ومنها سلطات الكمارك والمنافذ الحدوديَّة والتجار والمستوردون، وهذا الأمر يتطلب أنْ تكون الإجراءات ميسرة ومضمونة، مع عدم التهاون أبداً في تنفيذ البرنامج، إذا ما علمنا أنَّ البعض سيحاول تمرير شحنات ومواد وسلع عبر المنافذ الحدوديَّة من دون الخضوع للفحص والتفتيش. أعتقد أنَّه في مثل هذه الحالة ينبغي عدم تمرير أي شحنة قبل إجراء إعادة الفحص لعينة عشوائيَّة من تلك الشحنة للتأكد من أنها لم تتعرض للغش أو التلاعب أو أنَّ شهادة الفحص المرفقة معها مزورة، مع عدم إغفال تحديد الأجور وفقاً لحجم الشحنات أو كلفها الماليَّة، والاستفادة من هذه الإيرادات التي سيتم استيفاؤها من الشركات الفاحصة في تطوير البنى التحتيَّة والقدرات البشريَّة للجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعيَّة، لأنَّ برنامج التفتيش والفحص من قبل الشركات العالميَّة، لا ينبغي أنْ يستمر الى ما لا نهاية، إنما يجب أنْ نعتمد على قدراتنا الوطنيَّة في إطار السعي نحو معالجة حالة الانكشاف الاقتصادي، وحماية السوق والمستهلك
العراقي.