نوزاد حسن
حين دخلت لأول مرة الى المكتبة الوطنية في دهوك كنت مجردا من شيء ضروري جدا للانسان ذلك الشيء هو: انفعالات العقل الضارة. لفترة طويلة قاومت هذه الانفعالات بصبر لا حدود له. كنت أعرف أني سأخسر شيئا من لباقتي او حسّي الاجتماعي اذا تنازلت عن عقلي تنازلا كاملا. وقد لمست وجه الخسارة وتحمّلت نتائجها لكني لم أكن في حاجة الى مزيد من العقل الضار لي على اقل تقدير
هذه النتيجة جعلتني انسانا بلا عقل، والاهم من هذا جعلتني انسانا يرى العالم في صورته الحقيقية اي كما هو موجود فعلا. ويبدو ان وضوح الاشياء وقربها منا لم ينفعنا في ادراك سرها المفضوح او سرها المعلن منذ ان قتل الاخ اخاه، ثم بدأت الاشياء تعيش في طور جديد هو امتلاكها لضعفها الكائن فيها. واذا لم نعرف كيف نلمس هذا الضعف بايدينا فاننا لن نكون جزءا من هذا العالم وانما سنكون جزءا ضده.
إذن العقل حركة ضد الاشياء، وبعبارة اكثر دقة العقل حركة ضد الوجود. لكن ما هو العقل. انه بكلمة صريحة وسيلة او اداة تواجه الكون، ويثيرها غموض الاشياء. واذا زال الغموض بحث العقل عن ظاهرة غامضة اخرى ليحس بوجوده من خلالها، ويعثر على تكامله وهو يواجه ظلام غموضها. وحين يحل العقل لغز الشيء يوفر سعادة دنيوية شكلية لا مفر من استخدامها. مثلا اذا تفشى مرض في مكان معين، وكان الطب لا يملك معلومات عن هذا المرض، هنا يقف العقل متنبها كقط يريد الامساك بفار. وبعد البحث ووضع الفرضيات يصل الى معرفة المرض الجديد فيمنحه اسما ويصنّفه ويحاول ايجاد علاج له. كذلك الحال في اية ظاهرة علمية تتعلق بالكون من حولنا. إنّ تفاحة نيوتن خير مثال على مواجهة غموض الاشياء واكتشاف معنى الجاذبية. لكن العقل يبدو اكثر ابهارا ونشاطا حين يصنع لنا جهاز موبايل بمواصفات متطورة، في هذه الحالة سنكون سعداء لان الاشياء لا تقف عند حد في تطورها والاهم هو شعور الاعتزاز الذي يغمرنا لاننا ابناء مدن شيّدها الانتصار العلمي. وفي كل يوم يقوم العقل بصناعة شيء خلّاب يلفت انتباهنا، ويقنعنا ان مستقبل العلم بلا حدود. عند هذه النقطة نكون احفادا بررة لديكارت الذي فكر قبل قرون بضرورة السيطرة على الطبيعة من اجل مزيد من الرفاهية.
نشاط العقل هذا وانجازاته لا تكاد تظهر ونحن نقرأ مقال بورخس “العمى”. في تلك المقالة يكشف بورخس عن السخرية التي وجد نفسه فيها حين عُيّن مديرا للمكتبة الوطنية وهو اعمى لا يرى الا ثلاثة الوان في احسن الاحوال. لكنه يفسر وجوده في مكتبة ضخمة في بوينس ايرس بانه كان لاسباب سياسية وهذا بحد ذاته سخرية ما بعدها سخرية. وتكاد السخرية تتضاعف حين يذكر بورخس في مقالته ان الروائي بول غروساك وهو اعمى عُيِّنَ هو الاخر مديرا للمكتبة الوطنية. كما ان خوسيه ميرمول تولى منصبه مديرا للمكتبة رغم عماه. وقد سبق كل منهما بورخس الى العمل في المكان الذي احبه كثيرا. وقد صار مسؤولا عن مليون كتاب كما يقول. لكن كيف يمكن ان افسر مقالة بورخس تلك اذا اردت ان اكون أمينا على منطقي او طريقتي في اكتشاف العالم والمحافظة على الصورة الواضحة للاشياء التي تشوه في الغالب بسبب يقيننا العقلي الغريب.
يعد العمى كما أعتقد وضعا شخصيا مؤلما لمن يصاب به. الاعمى حين يمر بنا او حين يحاول عبور الشارع يشعرنا بأن الضعف البشري طارئ على الوجود، وان هذا الضعف هو قدر لا يمكن التفاهم معه كاشياء كثيرة في هذا العالم مثل الموت والشيخوخة واكتشاف الزمن والمرض والحقد. كل هذه الاشياء طارئة على الوجود، وادراك انها طارئة يحتاج منا شعورا مرهفا يحملنا على أجنحته لرؤيتها كما هي. العمى اذن وضع محرج لكنه عند بورخس هبة كبيرة؛ وهو علامة قوية على ضعف العالم ولا يجوز تجاهلها. إنّ بورخس يحول العاهة الى نصر شخصي.. ويصنع من ضعفه تاريخا لغير المبصرين ليقرؤه مبصرون يلمحون في الاعمى شخصا يعيش مع
عاهته وحيدا.
لكن هل علّمني بورخس كيف اكتشف نفسي اولا ثم كيف اكتشف العالم المحيط بي..؟ في الواقع ان قائمة المعلمين الذين زرعوا داخلي المعرفة غير التقليدية تطول لو اردت أن اقدم شواهد على مسيرة طويلة من صراعي لاضعاف موجة العقل الهادرة. ان المعرفة غير التقليدية تعني لي الاحساس المباشر النظيف جدا، ان هذا الكون موجود بصفة غير دائمة، وهذه الصفة واضحة على نحو جلي، ثم اصل الى نتيجة مباشرة لا تقل وضوحا عن وضوح صفة الكون الاولى وهي اني مؤقت الوجود او موجود بصفة غير دائمة. هذا الارتباط بالعالم والاشتراك معه في اهم صفة فيه تشبه العلاقة العبثية التي تنشأ بين الفرد والعالم. فالعبث لا يوجد الا بوجود هذين الطرفين، وكذلك فان وجودي يدخل في دائرة أكبر وأعم هي دائرة الكون الاضعف الذي لا يلغي ذاتي وكأنّي ذرة سكر في بحر، بل يملؤني بيقين شخصي اني اعاني اكثر مما يجب. وليس في مقدوري ان اتخلص من هذه المعاناة ابدا. وان عليَّ ان ابحث عن خلاص يريحني ويقلل من عزلتي الشخصية التي لا يمكن التعبير عنها الا ببلاغة خاصة تنبع من نسيج الضعف الذي يتألف منه الكون. اذن اول ما احصل عليه، وانا المس هذا القلم او وأنا أقبل ولدي او حين انظر الى أمي هو شعوري اني اعاني عزلة شخصية لا مثيل لها. العزلة هنا لا تعني عدم وجود الاشخاص والاحباب في حياة الانسان، وانما تعني وجودهم المؤقت الذي لا يمكنني ان أغيره ابدا. العزلة تعني بكلمة اكثر تحديدا ان كل ما اراه يذكرني باني زائل لان الزوال او صفة المؤقت هي اكثر صفات الاشياء بروزا، ولا يجوز ان نراها بطريقة اخرى تغيّر من جوهر الشيء كي يبدو العالم في صورة اخرى تبدو اكثر فائدة ومنفعة. لكني لا افضل محاولة العقل في تغيير هوية الاشياء الواضحة. لنحاول اذن ان نفصل القول في حلول العقل التي تدمر جوهر الكون برمته، وتسرق منا اثمن ما يمكن ان نملكه. العقل يدمر ضعفنا الانساني حين يهدم صفة الكون الذي ننتمي اليه. وفي هذه الحالة نفقد صلتنا الروحية بالاشياء، ونفقد ايضا عنصر شخصيتنا الاهم او بكلمة ثانية يجف فينا ذلك الاحساس الذي يجعلنا قريبين جدا من كل شيء على الرغم من اننا نلمس اننا معزولون تماما عن الاخرين لكننا نشاركهم كل شيء وتكون اخطاؤهم دروسا نتعلم منها، وتكون احزانهم قضايا تخصنا وتؤرقنا. هذه المشاركة الرائعة ليست حلقة مقفلة على عدد محدد من البشر.. انها حلقة تتسع باتساع الكون وتعامل كل ما هو موجود بروح واحدة انطلاقا من عزلة شخصية تدرك انها تعرف معنى هذا العالم والكون، وهذا المعنى هو ذاته معنى الانسان او الشخصية التي يبنيها ضعف كوني رهيب.