الانتماء واللانتماء

آراء 2020/01/12
...

رزاق عداي 
عندما يكون هناك أكثر من ثلاثين ألف ملف فساد تلاحق طبقة سياسية فاسدة تفننت في مداورة السلطة فيما بينها، اظن ان بامكاننا ان نصفها بانها لا منتمية الى بلدها ابدا، لان دالة الصلة معه منبنية على اساس الاثراء والمغانمة فحسب، وبممارسة هي اشبه باللصوصية والنهب دون اية وشيجة اخرى. 
وشعور اللاانتماء يرادف مفهوم الاغتراب والذي يعرف على المستوى الفردي بانه الانفصال عن الذات والبيئة المحيطة والذي ينتج لاحقا سلوكا غير سوي، هذا في المجال النفسي، اما في المجال العام الاجتماعي فانه سيتمخض عنه اجرائية سلوكية لامنتمية تقع في النطاق الاجتماعي. بروز الحالة اللاانتمائية المتمثلة في ظاهرة الفساد المتفشي في مفاصل الدولة في المرحلة الراهنة سبقتها مقدمات ذات طابع تاريخي، وهي وان بدت ظاهرة صغيرة ومحدودة انذاك، او هي حالة فردية بلورتها عوامل ومسوغات اجتماعية، اذ لم تلبث ان تفشت وانتشرت على سطح الجسد الاجتماعي بشكل مرضي، لتشكل انهيارا قيميا واسع النطاق. ولتعقب مقدمات  حالة اللاانتماء في المجتمع العراقي ينبغي استحضار بعض المقدمات في السنوات التي سبقت الاحتلال في 2003، التاريخ الفاصل، وليس المنقطع تماما على صعيد الفساد على الاقل، فشيوعه واستشراؤه بخطوات تصاعدية، وتحديدا منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، كانت يختفي خلفه. نوايا ومقاصد من قبل السلطة انذاك بغية تحقيق تشويه مجتمعي مقصود، لابعاد الافراد والجماعات عن التفكير السديد في مصائرهم وشؤونهم العامة، والزج بهم في فضاء ملوث، ومن بعد للمواظبة على سلوك اخلاقي شائن، وكل هذا من اجل قلب المعادلات الاخلاقية الرصينة التي اعتادها المجتمع العراقي سابقا.
فالدولة، في ذلك التاريخ الذي تزامن مع الحصار المطبق على المجتمع العراقي، كانت قد رفعت يدها عن المجتمع العراقي وتركت الامور العامة للدولة اشبه بالسائبة، محاولة خلق حالة من التزاحم الاجتماعي والتسابق على المنافع التي مهّدت الى بروز سلوكية انتهازية متجردة من القيم، فصار المواطن العادي يواجه خيارات محدودة، في طليعتها الموت جوعا هو وأسرته، او خيار التنازل عن قيم نزيهة وسامية وكانت الارضية الاجتماعية قد مهّدت بعض المسوغات التي بات يرى المرء بان لا مفر من التجاوز على القيم القديمة والسباحة مع التيار، وكانت هذه الخطوة الاولى هي في التخلي عن الانتماء الوطني وولوج منطقة اللاانتماء خصوصا في حمية الفساد العام في مجال العمل في مؤسسات الدولة. وبشرح مبسط هو ان يكون جسد الدولة-الوطن مستباحا، واشبه بالفريسة، عليك ان تنتزع اكبر قدر مما تتمكن منه قبل ان يسبقك الاخرون في نهشها ، هذا دون وازع اخلاقي او ديني.
في عقود ليست بالبعيدة كثيرا، كان المرء يطارده الشعور بالاهانة العظيمة اذا ما اشير اليه بتهمة الحصول على الرشوة - مثلا، ولكن انقطاعا حدث بعد ذلك ادى الى تناقص في  هذا الشعور، وحل محله سلوك مضاد له ومعاكس فصار مثل العرف في السلوك الاجتماعي، وبات نمطا من المهارة والتشاطر، فما يخشى منه ويجري في السر اصبح مشهرا به وبمنطق التباهي في سياق من الشذوذات التي تفشت قيما سائدة في اوساط الشعب.
بعض علماء النفس السياسي العراقيين، يحدد ثلاث ولادات  للشخصية العراقية تشكلت في حقبة الدولة العراقية الحديثة، فالاولى كانت مع البداية في مطلع عشرينات القرن الماضي، فرغم المستوى المعاشي المتدني للمجتمع العراقي انذاك، اذ انغرزت في بنية المجتمع اعراف تسمو بوصلتها باتجاه بناء دولة حديثة.
ولو اننا اخذنا عقد الاربعينات من القرن الماضي كعينة بنيوية لمجتمع عراقي، سنلمس بروز مؤشرات حداثية باهرة منطلقة ومتوائمة مع ولاء للدولة العراقية ومن رغبة في البناء المتفاني، الذى دعا احد الزائرين الاجانب بان يصف الشخصية العراقية بانها وثابة وتميل الى الحداثة والتجديد، فقد برزت طبقة برجوازية صناعية ناشئة وان كانت محدودة ولكنها طموحة، اقترنت معها طبقة عمالية واعية، ونقابات، وصحف متعددة، واحزاب، وشوارع، وكهرباء، وحصل توسع في الافق الثقافي، تجسد في ثورة جذرية في الشعر، ونشاط مسرحي، وانشغال تشكيلي متقدم. كل هذه التطورات تواشجت مع شعور انتمائي عميق، طبعا كل هذا لم يتحقق مالم يتوفر احساس عارم بالمواطنة، متجسدة في منظومة قيمية -اخلاقية متوازنة حتمها واقع الشعور بالانتماء. 
الولادة الثانية للشخصية العراقية حصلت فيما يمكن تسميته بالشخصية الحصارية- التي انبثقت مع كل مساوئ الحصار الذي خيّم على سنوات تسعينات القرن الماضي، والذي احدث تفكيكا وتشويها في كل البنية المجتمعية العراقية، لقد كانت هذه المرحلة تعد مرحلة تمهدية لحدوث الولادة الثالثة للشخصية العراقية بعد الاحتلال في 2003.
لقد كان بناء الدولة في اعقاب الاحتلال هو الذي أسهم بقوة في تركيز وتكثيف السلوك اللانتمائي في الشخصية العراقية، وكان من تبدياته شرعنة الفساد وتلوّنه وانتشاره في كل مفاصل الدولة.
خطاب الدولة عبر مؤسساتها في البرلمان والدستور، انتج المحاصصة المولدة للفساد بضراوة، فاشغال المناصب يجري بمعيار التحاصص والمغانمة اما القوى السياسية التي شكلت ما يسمى بالطبقة السياسية فقد قدمت من الخارج وهي معبأة بدعوى المظلومية والتهميش من قبل النظام السابق، التي وظفت هذا الادعاء بمهارة للاستحواذ على اموال الدولة كاستحقاقات طائلة، وشرعنة للسرقة ونهب موارد الدولة. التظاهرات الاخيرة التي اندلعت كحركة مقابلة لحالة اللاانتماء الذي خيم على بنيات المجتمع العراقي، هي صيرورة حتمية لا بدّ منها لبلوغ حالة الانتماء بدلا من اللاانتماء.