محمد شريف أبو ميسم
اعتدنا استغلال المضاربين في السوق الموازي للأزمات التي تشهدها البلاد، وقد استطاع هؤلاء جني أرباح كبيرة في سوق بيع وشراء الدولار الأميركي خلال الأزمة التي مازالت تلقي بتداعياتها على المشهد الكلي في البلاد، مستغلين الشائعات والتلويحات السياسية الدولية من هذا الطرف أو ذاك بشأن وقوع الحرب في المنطقة أو التهديد بالحصار، والتي أفضت لمزيد من الطلب على الدولار بوصفه ملاذا آمنا لاكتناز القيمة النقدية للعملة المحلية، ما أفضى الى ارتفاعات غير مسبوقة في سعر الصرف، منذ شهد سعر الدينار مقابل الدولار الأميركي استقرارا نقديا في حزيران 2018 بفعل السياسة النقدية الناجحة التي اتبعها البنك المركزي باسلوب البيع الاستباقي في تمويل التجارة الخارجية والطلب المحلي. اذ استطاع المضاربون أن يصلوا بضجيجهم الى سعر صرف تجاوز نحو 1350 دينارا للدولار الواحد ببضع نقاط يوم الأربعاء الماضي، ولكنه سرعان ما تراجع الى 1230 دينارا الخميس الماضي بعد أن بلغ اجمالي مبيعات الدولار في مزاد المركزي في ذلك اليوم، نحو 269 مليون دولار بسعر بيع 1190 دينارا لكل دولار، توزعت بين 229 مليون دولار لأغراض تمويل التجارة الخارجية، و40 مليون دولار للبيع النقدي.
وربما يكون انخفاض حدة التوتر السياسي والأمني في المنطقة، سببا في انحسار الضجيج الذي صنعه المضاربون، إلّا انّ استمرار البنك المركزي بعقد جلسات مزاد بيع الدولار بالسعر الرسمي، وتأكيده رسميا على قدرته في تغطية الطلب المحلي لسنوات عديدة بفعل امتلاكه لاحتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية، أسهم بشكل رئيس في تكريس ثقة الجمهور بحركة السوق وعدم قدرة المضاربين على صناعة المزيد من الفقاعات السعريّة.
وهذا الأمر لم يأتِ من فراغ، وانما من سياسة اعتمدت الافصاح والشفافية لسنوات في الاعلان عن فعاليات السياسة النقدية ومعدلات احتياطي العملات الأجنبية بشكل مستمر، كان آخرها الاعلان عن ارتفاع احتياطي العملات الاجنبية الى نحو 87 مليار دولار في أيلول الماضي، ما يجعل قدرة المركزي في تحقيق استقرار نقدي في أعلى حالاتها، ومن ثمّ فقد كان لهذه السياسة دور كبير في خفض مستويات الضجيج الذي صنعه المضاربون، وعدم استمرار الطلب غير المبرر، واعادة الثقة بالعملة المحلية. من المفيد الآن مراجعة دور كل الحلقات ذات الصلة بالطلب المحلي على الدولار الأميركي، لتكريس ملامح النجاح في هذه السياسة، ووضع آليات جديدة تدعم القطاع المصرفي وشركات التوسط والتحويل المالي ومكاتب الصيرفة، التي كان لها دور ايجابي في الحفاظ على سياسة الاستقرار النقدي خلال الأزمة، وتحديد حلقات الضعف في هذه التشكيلات التي انتفعت من الأزمة على حساب المصلحة العامة باتجاه معالجتها، بهدف الوصول الى مستوى الثقة الراسخة بالعملة الوطنية وخلق بيئة نقدية مستقرة تسهم في تحقيق التنمية واستقطاب الاستثمار الأجنبي.