كانت الخيول الثقيلة تقطع الطريق الترابي المنداح على مدِّ النظر، وتثير زوبعة من الأسئلة والغبار الذي يعلق بواجهات البيوت الطينية الهرمة حدّ الانحناء فكانت غلالته الكثيفة تتداخل مع صهيل الخيول المتهدلة البطون والمنبسطة في سيرها وكأنّها هرمة متعبة وخلت ان الجوع يفري امعاءها فأحالها الى اجساد بعظام رميمة، تجتاز الطريق تلاحقها نظرات الأهالي الحيرى والمدهوشة وهم يمسّدون مشاعرهم وكأنّهم يقولون سنصبر لنرى خاتمتها. انهم يسيرون فوق بطوننا، قالها عجوز مدّ عنقه من نافذه متهرئة .
رجل رثّ الثياب، راكض خلف الخيول يصرخ بأعلى صوته :
مجانين اذهبوا واغتسلوا في النهر انتم وجيادكم القذرة !! كان المخبول ـ كما يصفه البعض ـ المعتوه المعربد دوما في شوارع القرية وبيوتاتها، هو الوحيد الذي يجرؤ على الحديث معهم ويرشقهم بسليل الكلام النافذ والمهين.. فلا احد منهم يرده مهما كان حجمه ومكانته. إنّه بوق لا يسكت .
الخيول تحمل ما تحمل من رجال المعسكر الشاخص عند الاطراف وهم يجدّون في سيرهم غير آبهين.. الراكبون على الخيول لا يلتفتون ابدا و كأنهم تماثيل شدت على ظهور الأحصنة.. المخبول الراكض خلفهم بحماس مندفع غير هيّاب، يسقطه احدهم بلكزة قوية بعُقبِ بندقيته اوقعته ارضا وتمدد متألما متأوّها.. البيوت الغارقة في الصمت تهجع بعزلتها رغم مايثيره الموكب من ضجّة وغبار وخوف فصار المكان موحشا كواد اصم مسكون بالحجارة.. الخيول البدينة بدت متعبة تستجدي الشفقة وهي تترنح تحت سياط الرجال المتحجرين. مُدت الاعناق خلفهم، فكان كل واحد يتلصص خشية رؤيته فيدخل في متاهات الاسئلة التي لانهاية لها وربما سيفرّ صاغرا الى مركز المدينة البعيدة فتضيع اخباره كما ضاعت وتلاشت اخبار بعض الرجال. فجأة، الخيول تستدير بوجوهها لتمد رقابها العريضة القصيرة بشعورها المنفوشة صوب البيوت لتواجهها بعيونها الصغيرة المختبئة تحت محاجرها. سدّت الابواب وهجعت ثانية وكأنها نامت في قبور لا رجعة منها.. ترجّل الراكبون ببنادقهم تاركين خيولهم الممتلئة لا حراك فيها، ليكوّنوا مربّعا ينقص ضلعا واحدا ووقف احدهم في المنتصف صارخا برجاله بنبرة تهديد ووعيد وكأنّه يريد اسماع من في جوف البيوت :
اليوم تنتهي المهلة.. بعد الظهر تكسرون الابواب الموصدة وتدخلون وتبحثون عن قاتل المأمور الانجليزي، انها اوامر عليا ولا مجال للنقاش، الامر متروك لنا يجب احضاره ولو كان تحت الارض !.
عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب ويوحي مرآهم بأنّهم على وشك تنفيذ امر القيادة العليا.. تقدم المخبول- البوق - ليخترق احد الاضلاع المواجهة للبيوت فردّه احد الواقفين بوكزه بماسورة بندقيته الطويلة فابتعد عنهم مهمهما .
حدثني أبي عندما كنت أتأمّل جهاز المذياع الخشبي الكبير الراقد اعلى المنضدة المتهرئة وهو يذيع خبر مقتل المـأمور.. يومها كان قيظا قد ضربنا بعنف ونحن داخل بيتنا الطيني المتهالك. قال بحسرة المظلوم:
لم أكُ أعرف بأنّ السنوات ستزحف عليَّ مثل قضبان الحديد في زنزانة مظلمة. انها ناكدة مطيحة للامال، انتهت رحلتي في هذه الدنيا !
قلت وأنا الصبي الصغير الذي لم أجد سببا لتذمّره :
الخيالة وقفوا امام بيتنا ومنظرهم لا يوحي بأنّهم سيغادرون .
التوى عنق أبي تحت وطاة كلامي وجلس مقرفصا كأنه يريد النوم في وضح النهار وكانت عيناه ذابلتان حزينتان. مددت يدي اليمنى ممسدا شعره الابيض فشعرت بحرارة تسري بين اصابعي وايقنت اني كنت في حلم وصحوت منه ..
انسل صوت كأنّه قادم من اقصى البيوت البعيدة .. صوت فيه انكسار غريب ونبرة لم اسمعها من قبل و صار يتهدّج كأنّه يبكي :
انهم يبحثون عني! سأرحل معهم دون رجعة، الذي يُساق معهم لا يعود! اعتنِ بأمك لا تفارقها وكن رجلا يدير الدكان بحنكة الماهر ولا تعبأ لهم حتى لا يسلبونك حياتك وتكون عنقك تحت سكينهم.
يومها لم أعرف ما قصده ولم استطع ادراك كل ماقاله لاني لم افهم تماما ما يحدث ولم يبح بسرّه لاحد غير أمي التي اعتكفت صامتة شاردة هاذيّة كالمحموم.
ارتفع سعال ابي الأجشّ وخيّم صمت مفاجئ وأصبح المكان يضيق بنا بينما كان ملتاثاً ومشتتاً وحزينا ..
الامر الوحيد الذي لم استطع نسيانه ابدا ان الخيالة اقتادوا ابي المنكسر عصر ذلك اليوم وهو يوزع نظراته بين البيوت التي فتحت ابوابها واندفعت احشاءها مذهولة. تعالى صياح أمي وبكاؤها وخرج الجيران بوجوه تائهة غضبى عندما وجده المخبول جثة هامدة مرمية وسط مكب النفايات صباحا بعد طلوع الشمس بقليل. هرول الاهالي الى المكان وقد غطى الدم صدره واصطبغت دشداشته السمراء بلون احمر .. تشرنقت في ركن من بيتنا الذي ازدحم بالنسوة والرجال الباكين المفجوعين بمقتله .
ادركت حينها أنّ أبي مات مقتولا بطلق ناري في انحاء جسده من قبل الخيّالة بقرار من القيادة العليا. ولم اسمع أمي من يومها قد تكلمت مع احد او تكشف وجهها لاي احد حتى لاخوتها الذين داوموا على زيارتنا الى ان ماتت كمدا. وحدها بقالة ابي هي التي اوصلتني لاكمال دراستي .. صرت معلما في مدرسة القرية لمادة التاريخ، فجأة فارت عروقي وطفر الدم منها حينما وصلت الى الصفحة التي تقول بأن المأمور الانجليزي قد قنصه احد الشيوخ المعروفين في القرية.. تركت الكتاب يسقط دون وعيي تحت نظرات التلاميذ المندهشة وسرت كالثمل الى بيتنا حافرا تحت غرفتنا الآيلة لأعثر على خنجر صغير خبّأته أمي .