ناجح المعموري
(هل هذا هو أنت؟) آخر إصدارات الشاعر شكر حاجم الصالحي، وهو أكثر الشعراء من بين ابناء جيله نشاطاً ابداعياً ومتابعة نقدية للاصدارات، فهو مزدحم بالقراءة والفحص وخصوصاً الشعر، صدر له اكثر من عشرة دواوين شعرية، وأستطيع القول بأنني متابع جيد للتجربة الشعرية الخاصة به لأكثر من سبب: التاريخ الصداقي والثقافي فيما بيننا، وثانياً مستمع لما يكتب وقارئ له بشكل مستمر، لذا أدّعي بأنّي قريب منه ومتحاور معه.
وأعتقد أنّ ديوانه الجديد ((هل هذا هو أنت ؟)) مغاير عمّا صدر له، ومختلف عبر العديد من التفاصيل وأهمها أنّ الشاعر الصالحي إلتفت للوراء معاينا ماضيه ومستعيداً مخزونات ذاكرته فوجد فيها كثيراً من الخسارات والانكسارات، وهذا ما تمظهرت عنه كثير من النصوص في هذا الديوان، وبالإمكان القول: إنّ الانثلامات هي سمة نصوصه وهي الغالبة فيها، وكأنّها تمثل تجربة واحدة، تعرّضت الى تجزئ، وكتب عنها مرات؛ لذا يمكن ان نقول عن ديوان (هل هذا هو أنت؟) انه سرديات سيرية وهذا النمط من الكتابة ليس جديداً، بل هو قديم؛ لذا نعدّ السردية والحكي أهم السمات البنائيّة في تجربة الشاعر شكر حاجم الصالحي، وكلنا نتذكّر أنّ التبادل الحواري والمراسلات هي احدى مكونات مجال التبادل مع الآخر الذي هو دائماً ما يكون حقيقياً وليس وهماً، واستطيع القول ان كلّ كتابات شكر الشعرية هي تصورات يومية ومعاينات عرفها أو استمع إليها، إنّه شاعر متحاور مع المألوفات لدى الافراد المقربين له، أو المعروفات من خلال تجارب إطّلع عليها واستمع إليها، وما يؤكد ملاحظة وجود عديد من القصائد مهداة لأصدقاء عرفهم، وكل قصيدة مختلفة عن الأخرى بنائياً وذاكرةً، بمعنى أنّ التفاوت فيما بينها ظاهر للقراءة السريعة كما ظلت ظاهرة الرثاء مستمرة في تجربته منذ لحظته الاولى وحتى الآن، ومنها ((محض رصاص)) مهداة الى أخيه علاء مشذوب الشهيد الحي، انساناً مبدعاً، كما بعث عدداً من الرسائل الشعرية لعديد من أصدقاء، اجتماعيين وأدباء .........
ما أود الإشارة إليه ولفت الانتباه لما هو سيري في نصه الاستهلالي الطويل (هل هذا هو أنت؟) وتقديم توصيف جوهري بالالتفات للماضي بوصفه تاريخا مزدحماً بالسرديات والخيبات التي عاشها متجاورة مع بعض السعادات البسيطة التي ظلت حاضرة في ذاكرته معتقداً بأهميتها، نظراً لما تعرّف عليه عبر زمن طويل، والمثير ان هذا الديوان منح الذات تمركزاً، وتقدمت الأنا متجوهرة في عنونة الديوان، وكأنّه أراد سحب المتلقي لما ينطوي عليه العنوان من غرابة ودهشة، لأن الشاعر، الأنا/الذات هي السائلة لتتعرّف على الجواب، لكني لم أجد ما يكفي من اجابات للأسئلة التي اعتنت بها الذات، وما يجعل المتلقي أكثر حضوراً مع هذا النص هو الابتداء:
أنظر في المرآة و أبكي
هل هذا هو أنت ؟
لا حمرة خدّيك
لا شاربك المعقوف الأسود
لا شفتيك ......
لا حبّات اللؤلوء في فمك
لا لهفة عينيك /ص5
لم يكن ينعكس على سطح المرآة تمثيلاً للواقف أمامها في الصورة المرآتية بعض من الكائن وليس متطابقاً بالكامل، المنعكس على سطح المرآة لا يختلف عن الصورة الفوتوغرافية ومع ذلك فقد تضمن نص الشاعر إلغاءً لما هو بعض منه، نفيُّ لحقيقته الآدمية وتعطيل كلّي لأنطولوجيته، مثلما هو نكران وإلغاء كلّي وتام، وينطوي هذا المقطع من النص الطويل على كراهية الأنا وسعيًّ لطردها، انه اعتراف قاسٍ، وتشويه للذات وجلد كلّ شيء لا يشبه ما كان ملمحاً أساسياً في شخصية الراوي، تشوّهت أشياء هي ملامحه ومميزاته المعروفة سابقاً، لا حمرة يديه / وخدّيه / ولا شاربه الأسود / ولا كلامه اللؤلؤي / حتى عينيه فقدنا لهفتهما، وعودة للتحولات ومتغيرات الزمن هي ليست عاكسة للمخفي في التكونات الجديدة في شخصيته وبعض منها نتاج زمني، إلا الاشارة الوحيدة ((لا حبّات اللؤلؤ في فمك)) الجوهر المتغير في هذا المقطع لأنه ينطوي على تحقق الانحراف الثقافي والاجتماعي والذي كشف عنه الكلام، وهذا هو ما ذهب إليه وأكد عليه، انه انقلاب نسف كل تراتبيات الإنباء الثقافي والأخلاقي والقسوة صادمة وهجاء الذات ولعنة الحضور المزوّر، وكان هذا النص ((هل هذا هو أنت؟)) سيرة مختلفة عما كان مألوفاً ومعروفاً وأعلن البراءة عنه، لأنّ القول بذلك ما يشبه التقرير وسيادة الكلام التداولي عبر الاتصال اليومي بين الافراد، حيرة الراوي واضحة، ليست مخفية او متكتم عليها، وهو معترف بذلك:
قُلْ للمرآة:
بأيِّ خراب أمسيت
وبأيِّ بهاء كنت
هل هذا هو أنت ؟
أنظر في المرآة وأبكي
مرّت خمسون وأبكى
هو راوٍ بكّاء، حيث ابتداء الخسران في الخمسين وظل هاوياً للبكاء للتعبير عن الندم، في الستين وفي السبعين، هي اواخر أيامه لأن كلّ شيء في الحياة باطل وكاذب، لأن المخفي لديه وهو نتاج تجربة عاشها غيره، ولاشيء مقبول في الحياة المريرة، فالعقل مرير ومثله الجنون وكذلك الوقت والصوت والموت / فالآم تنظر في المرآة وتبكي / إنكِ .. ابكِ .. هل هذا هو أنت ؟ / ص6 يتبدّى نصه (أساطير) عن انشغال بما هو قديم لديه وأعني به الميثولوجيا، وكثيراً ما استثمرها واختطف الشائع منها من اجل فضاء مشترك بينه وبين المتلقي، ولعل الالهة عشتار اكثر دلائل المثيولوجيا العراقية والشرقية تداولاً وتوظيفاً، لكن وعي الاسطورة وانتاجها لا بدّ أن يكسر السائد والمألوف بالتداول، كذلك استثمر العناصر البنائية لملحمة جلجامش وكأنه محكوم بنسق سردي لا بدّ من المحافظة عليه خوفاً من الانثلام أو والانكسار، ((هل هذا هو أنت؟)) للشاعر شكر حاجم الصالحي تجربة تستحق القراءة والحوار
معها .