لقمان عبدالرحيم الفيلي
في تشرين الأول من عام 2019، تغيرت قواعد اللعبة السياسية العراقية ، ومع غياب أيّة طريقة واضحة للتغلب على الازمة الحالية وتفاقماتها، فإن ذلك يمثل خطراً حقيقياً على النظام السياسي مما يعني انزلاق العراق نحو المزيد من الفوضى السياسية والاجتماعية لاحقاً وممكن جداً ان يصبح العراق دولة تستعمل القوة فقط لحل مشكلاتها نتيجة الحاجة الى فرض القانون على حساب أمور اخرى ومن ضمنها الديموقراطية الوليدة، مدركين منذ زمن ان الحراك السياسي الحالي في الأعم الأغلب غير منتج، وخصوصاً مع استمرار الانعكاسات السلبية على موقع العراق الدولي ومسيرته نحو اعتباره دولة فاشلة لا سمح الله.
التفاؤل سيأتي عندما نعرف ان قواعد اللعبة السياسية قد تغيرت نحو الأحسن، والا كيف نريد لقواعد لعبة لها المدخلات نفسها تحت العملية التفاعلية نفسها أن تأتينا بمخرجات مختلفة. اذ لا يمكن رسم سياسة حكومية رصينة وفعالة من دون تغيير المدخلات وديناميكية صنع القرار. اذ لم يعد احتمال العودة إلى الاوضاع قبل تشرين الاول 2019 امراً وارداً، والازمة السياسية غير قابلة للإدامة، والوضع الراهن هش ويجب أن ينتهي.
الأزمة الحالية توفر فرصة ذهبية لمراجعة أداء الاقتصاد والمنظومة السياسية العراقية مع الحدث، فهي مع خطورتها تعطي غطاءً وشرعية واضحة للمبادرة وقيادة الحكومة، وبالتالي الطبقة السياسية الحاكمة، في اصلاح الجسم العراقي المنهك. نعم إنه تحدٍ كبير ولكنه ايضاً فرصة لبناء البيت العراقي بعيداً عن ضغوطات الخارج وامتداداتها في الداخل. هنا ضروري ان نحدد الأولويات لكي نعرف كيف نسّرع بإبعاد شر الازمة عنا، وضروري ان تتضمن هذه الأولويات مفردات بناء اقتصاد جديد بعيداً عن الاقتصاد الريعي، وفرض هيبة القانون مع حصر السلاح وتقوية مؤسسات الدولة المعنية بمكافحة الفساد وكذلك المعنية بالتعاملات مع المواطن ..الخ. فالتهديد الحقيقي هو في عدم اخراج البلد الى فضاءات ومساحات حركة لبناء وتقوية لدولة وسط هذه الفرصة الكبيرة للتقليل من دوامة الازمات والانتقاص المستمر من سيادة البلد واستقلاله ورفاهية مواطنيه.
ولعل من اهم مقومات عافية البدن العراقي هو تبني النخبة القريبة من الدولة دورا بناء وفعالا وسط هذا الحراك والتوتر. علماً ان هناك نوعين من النخبة السياسية، : نوع من النخبة، ولاسميها الحلقة الأولى/الداخلية، التي تعيش بشكل متزايد حالة الرفض او انكار الواقع الجديد. الأفراد الأقرب إلى السلطة ما يزالون مستمرين باعتقادهم أنه ليست هناك حاجة لتغيير المسار السياسي للحكومة، وأن النظام السياسي الحالي يمكن الحفاظ عليه نسبياً، ويرفضون مثلاً الاعتراف بالسلطة الاجتماعية للمرجعية وقوة الاحتجاجات، ويرون في ذلك مؤامرة تم الترويج لها من الخارج للإطاحة بالحكومة والنظام السياسي، وإن تلك الاحتجاجات والتظاهرات تقتصر على شرائح معينة من المجتمع. وعليه يعتقدون أن الجمع بين الإصلاحات والترغيب والترهيب والوقت في نهاية المطاف عوامل كفيله باحتواء المظاهرات ووضع حد لها.
اما النوع الأخر من النخبة التي أسميها الحلقة الخارجية/الثانية فهذه المجموعة يبدو انها تقدر حجم وعمق التحدي الجديد ودوافعه، ولكن ليس لدى الكثير منهم شعور بالمسؤولية الشخصية تجاه الأزمة الحالية، لا ينظرون إلى ارتباطهم العميق بالمنظومة، او دورهم في ترسيخ المحاصصة مع انهم مستمرون مع انتقاداتهم لقيادة السياسية وفشلها في إدخال إصلاح ذي معنى. وتقتصر التغييرات الواسعة التي يطالبون بها على إصلاحات العملية السياسية التي من شأنها الحفاظ على مصالحهم الخاصة، بدلاً من إصلاحات أعمق للنظام السياسي. سيتعافى العراق عندما نرى دورا بناء وفعالا وايجابيا للنخب، فهي حلقة الوصل التي ممكن جدا ان تضيف العقلانية للشارع وفي الوقت نفسه تبين للدولة ورجالاتها أهمية الإصلاح والتغيير.
ولعل من اهم الملفات الخارجية المؤثرة على تفاقم الوضع السياسي هو استمرار حدة الصراع الإيراني الأميركي، نعم هو ليس بجديد ومتعلق بتناقض بين هوية البلدين ومسعاهما لفرض رؤاهما ومنهجهما على الاخر وسحب العراق باتجاهيمها المتضادين. فالعراق بين جهتين؛ له مصالح قوية تربطه بإيران التي تحاول فرض سيطرتها على جيوسياسية المنطقة وتحمل أيديولوجيا سياسية تجعل العراق جزءاً مهماً جدا من امتدادات أمنها القومي/الوطني، ومن جهة أخرى مسعى اميركي لإلغاء الدور الفعال لإيران على حساب مصالحها وأمن حلفائها في المنطقة وخصوصاً إسرائيل وبعض دول الخليج. وهنا يأتي السؤال حول مدى ديمومة هذا الصراع ونتائجه السلبية بالنسبة إلينا، وما إذا كنا نستطيع ان نكسر هذا القيد ونبني بمعزل عن تداعيات هذا الصراع العميق والقديم الذي يتجدد دوماً. فضلاً عن المخاوف من استغلال بعض الشركاء السياسيين المحليين هذا الظرف والمضي بمشاريع تزيد من ضعف جسم الدولة المنهك.
ولتقليل هذا التفاقم السريع نحتاج في المعادلة العراقية الى تطابق استراتيجي بين ثلاث فئات؛ الدولة، والكيانات السياسية، والفصائل المسلحة. الأولوية يجب ان تعطى للسيطرة على البعد العسكري لأنه من الممكن ان يشعل فتيل النار المدمرة بين ايران وأميركا على ارضنا. إما كون الفصائل منضبطة او غير منضبطة فتلك هي مشكلة عراقية اولاً وان كانت امتداداتها خارج الحدود. ومعالجتها ستعطي مصداقية لوجود كيان دولة متجانس، وعلى قادة الفئات الثلاث ادراك ذلك لأنها الطريقة الوحيدة لتوحيد بوصلة العراق بالاتجاه الذي يبعد عنه شر تشظيات او حقيقة الحرب الاقتصادية/العسكرية.
وسط هذا الصخب والضجيج السياسي والمجتمعي من المفيد ان نفكر بجدية في ادخال طرف ثالث كأمر حاسم لكسر الجمود، وهنا يأتي ترشيح كل من المرجعية والأمم المتحدة كعنصرين محتملين مفيدين في المعادلة. نعم يحتاج كلاهما إلى ضبط تقاربهم الحالي وإعادة ترتيب وتنسيق رسالتهما ودورهما، والاستعداد للمشاركة معاً مع الآخرين في المرحلة الانتقالية وتبني رسالة سياسية لا لبس فيها لتضييق الفجوة من خلال التوكيد على ضرورة العمل بالدستور.