يخوض جو بايدن المرشح الرئاسي من الحزب الديمقراطي الأميركي منافسة شرسة مع الرئيس الجمهوري الحالي دونالد ترامب حول كرسيّ الرئاسة في خريف العام الحالي، وسط اتهامات متبادلة بين أكثر شخصيتين جدليتين في تاريخ انتخابات الرئاسة الأميركية، وذلك لوجود ملفات فشل وقضايا فساد داخلية وخارجية تطال سمعتهما وتهدد شعبيتهما، ولكن قطار الديمقراطية الأميركية لا يتوقف عند مثل هذه المحطات عادة خطوات ترامب التصعيدية الأخيرة ضد إيران والتخبط الأميركي في مستنقعات الشرق الأوسط، فضلاً عن اهتزاز وضعه في الداخل، وفرت فرصة نادرة لعودة الأضواء إلى شخصية بايدن نائب الرئيس السابق أوباما، الذي وصف بعرّاب السياسة الأميركية تجاه العراق والمنطقة، منذ نحو عقدين، عندما كان رئيس اللجنة السياسة الخارجية في الكونغرس الأميركي، وقد ارتبط اسم بايدن، منذ ذلك الوقت، بمشروعين يخصان العراق: أولهما إصدار قرار تاريخي في العام 2002 يسمح للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش باستخدام القوة المسلحة لإسقاط النظام العراقي السابق، وهو ما جرى تنفيذه فعلاً، وسط تعقيدات شائكة ونتائج غير متوقعة وسفك دماء كثيرة، وعند تصاعد اللوم ضد بايدن، إثر فشل السياسة الأميركية في العراق بعد إسقاط النظام، دافع بايدن عن قراره الخطير بالقول إنه كان يهدف إلى الضغط على النظام العراقي وليس إسقاطه!
وثانيهما في عهد أوباما حين تولى بايدن منصب نائب الرئيس، وتبنى، منذ بداية الحملة الانتخابية عام 2008، التبشير بمشروع لإصلاح نتائج التدخل الأميركي في العراق، ومعالجة النتائج المترتبة على قراره السابق، من خلال ما سمّاه بـ (التقسيم الناعم للعراق (soft partition of Iraq، وذلك على وفق البيت الشهير للشاعر العربي أبي نؤاس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ..ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
احتمال وصول بايدن للرئاسة أواخر العام الحالي، حتى لو كان ضئيلاً، لا بد أن يطرح تساؤلات مهمة حول مستقبل العلاقة الأميركية- العراقية، بعد كل ما جرى خلال السنوات الماضية، وليس هناك أمر مستبعد في عالم السياسة المتغير، فمن كان يصدق، قبل نحو أربعة أعوام، أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض، ومن كان يتوقع أن يفعل ما فعله حتى
اليوم؟
بايدن يعود إلى الواجهة، وربما إلى السلطة في وقت مقبل، في ظل ظروف صعبة تهدد مستقبل النظام السياسي العراقي، وعلاقاته مع دول الجوار والعالم، لا سيّما الوجود العسكري الأميركي، وذلك بعد قرار مجلس النواب العراقي الأخير الذي جاء نتيجة تصاعد تيار شعبي واسع يطالب بإنهاء النفوذ الأميركي في العراق وتدخلاته المستمرة غير المقبولة!
ليس هناك صدفة كما أعتقد في عودة شعارات الانفصال والتقسيم من جديد إلى المشهد السياسي العراقي خلال الأيام الماضية من قبل بعض الأطراف على خلفية الأزمات الأخيرة التي لا تزال تداعياتها الخطيرة مستمرة رغم محاولات التهدئة ودعوات العودة إلى لغة العقل والحكمة والوحدة الوطنية بدلاً من قرقعة السلاح ودوي الصواريخ، والتنابز عبر شاشات
الفضائيات!
عندما طرح بايدن مشروعه خلال الحملة الانتخابية الأولى للرئيس أوباما، كانت الأوضاع الأمنية في العراق سيئة تحت الاحتلال والنفوس محطمة، لكن أغلب العراقيين أعلنوا رفضهم لما يسمى بـ(التقسيم الناعم أو السهل) و جعل العراق ثلاثة أقاليم(شيعي- سني- كردي)، ومن المفارقات العجيبة أن بعض الرافضين لمشروع التقسيم في الأمس، هم من يرفع اليوم رايته! فما الجديد يا ترى؟
الدستور العراقي يسمح بإقامة الأقاليم وفق آليات ديمقراطية عبر الاستفتاء وموافقة الأكثرية، لكن دعاة التقسيم غير الناعم يريدون فرض رأي الأقلية، وهو ما يجعل مشاريع التقسيم غير مقبولة من قبل العقلاء والحكماء وأهل الحل والعقد، الذين يمثلون الأكثرية، ويرفضون فكرة تمزيق العراق إلى دويلات
متناحرة!
ينبغي ألا يفرح (بايدن) ومن يطبّل خلفه، لأن مشاريع التقسيم تبدو مستحيلة، لكن الفيدرالية ممكنة بشرط ألا تكون وفق أسس طائفية، ولا شك أن هناك خلطا واضحا بين مفهومي التقسيم والنظام الفدرالي، وهناك غموضا يحيط بالفدرالية في الكثير من تصريحات السياسيين وتغطيات الوسائل الإعلامية، فالدستور العراقي لم ينصّ على مبدأ التقسيم مطلقاً، بل تبنى نظاما فيدرالياً غير مركزي توجد الكثير من نماذجه وتطبيقاته في
دول العالم!
إنّ النسيج الاجتماعي العراقي والتداخل العرقي والطائفي في جميع محافظات العراق يجعل من فكرة التقسيم إلى ثلاثة أقاليم خطة سطحية، فلا يمكن الفصل من الناحية الجغرافية أو السكانية أو الطائفية بين العراقيين، لذلك تبدو فكرة التقسيم، سواء على أساس عرقي أو طائفي، مستحيلة وغير مقبولة
من الأكثرية.
والملاحظة الأخيرة التي ينبغي ذكرها هنا أن الواجب التاريخي الوطني يفرض على السياسيين العراقيين بذل جهود حثيثة من أجل توضيح مزايا النظام الفيدرالي وعيوبه، وكشف الغموض الذي يحيط بتطبيقه، ومن ثم لا بد من الإجابة عن سؤال جوهري: هل إن الفيدرالية تمثل حلاً لمشاكل العراقيين أم إن من الأفضل استمرار العراق كدولة موحدة؟ وفي هذا الصدد، فإن من المهم طمأنة الأوساط الشعبية حول التمسك بوحدة العراق أرضاً وشعباً، وبث الشعور بالوحدة الوطنية وضمان العدالة والنزاهة ومراعاة الكفاءة، سواء في إدارة الدولة أو توزيع المناصب والثروات أو التعامل مع المواطنين وإصدار قرارات تحسّن حياتهم اليومية، وتقلل من مظاهر
التوتر والتذمر.