فينيسيا تغرق

بانوراما 2020/01/18
...

نيل باتريك والش *

رويسين كوسار * *

ترجمة: مي اسماعيل
عاشت فينيسيا (البندقية) خلال شهر تشرين الثاني من العام الماضي أسوأ حالات الفيضان منذ نحو نصف قرن، وانتشرت حول العالم الصور والافلام التي أظهرت ميدان سانت مارك الشهير غارقا تحت الماء، وتهدد أمواج متوقعة بارتفاع نحو مترين بإحداث أضرار لا يمكن اصلاحها في المواقع التاريخية (مثل كنيسة سانت مارك). ورغم أن المدينة صارعت ارتفاع مناسيب المياه منذ القرن الخامس؛ فإن الفيضانات الاخيرة أججت جدلا كشف مدى ضعف المدن الساحلية أمام ارتفاع مستويات مياه البحر، وكيفية معالجة الاضرار المتوقعة.
موقع جغرافي حرج
أصبحت فينيسيا معتادة على مواجهة الفيضان بصورة دورية؛ وهو أمر يطلق عليه محليا: المياه العالية "أكوا آلتا- alta acqua". 
قد تعيش المدينة حالة الفيضان نحو ستين مرة خلال أشهر الخريف والشتاء، لكن العقود الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة بشدة وانتظام الفيضانات. وعلى سبيل المثال- غرق ميدان سانت مارك ست مرات على امتداد 1200 سنة؛ أربع منها وقعت خلال العقدين الاخيرين! 
تتضافر عوامل عدة لتجعل فينيسيا عرضة للفيضان بصورة خاصة؛ إذ تستمر مستويات مياه البحار حولها بالارتفاع منذ عقود نتيجة للتغير المناخي، لتكون الحصيلة ارتفاعا قدره عشرون سنتمترا خلال القرن الماضي. وبينما ترتفع مياه البحر المحيطة، تغوص المدينة ذاتها الى الاسفل بمعدل مقداره نحو ملليمتر واحد لكل سنة؛ بسبب الارض الناعمة الرخوة التي شيدت عليها. 
كما تعرضت تلك الارضية الهشة أيضا لضرر اضافي في العقود الاخيرة؛ حينما كانت المدينة تضخ المياه الجوفية لأغراض الشرب والاستخدامات الصناعية حتى عقد السبعينيات. 
أسهم الموقع الجغرافي ايضا بغرق المدينة؛ فهي تقع على مستنقع بحيرة ضحلة على حافة البحر الادرياتيكي. وتبقى الجزر التي تشكل مدينة فينيسيا دوما عرضة لتغيرات المد والجزر (بتفاوت في الارتفاع يقارب نصف متر) طيلة السنة. كانت سلسلة من الجزر المعروفة باسم "بارين- barene" بمثابة حاجز لحماية الجزر الداخلية من الفيضان منذ القرن الثاني عشر، بينما يعمد سكان فينيسيا الى سد مجاري الانهار وتقوية تلك الجزر الحاجزة لتعزيز حماية المدينة. وحينما جاء عقد الستينيات بحفر قناة البترول "Canale dei Petroli" التي سمحت بدخول ناقلات النفط الى الميناء الرئيس قرب فينيسيا؛ تضررت أساليب الحماية التي استمرت قرونا، وتآكلت جوانب البحيرة.
ونتيجة لذلك بات بإمكان رياح "شيروكو-Scirocco" التي تهب من الجنوب الشرقي دفع المياه الى داخل البحيرة، وهي تتظافر بدورها مع التيارات العالية لزيادة خطر الفيضانات الشديدة. 
 
البحث عن توازن
مما رفع مخاطر الفيضان أيضا (بصورة غير مباشرة) تغير منظور سكان فينيسيا تجاه محيطهم الحضري؛ فلعدة قرون كانت المباني الجديدة في المدينة تقام فوق أسس وركائز المباني القديمة، ما جعل المدينة تزداد ارتفاعا ببطء مطرد. 
وهو نظام شرحه خبير صيانة المدينة "بييربولو كامبوستريني" موضحا أن مخاطر الفيضان كانت تنخفض كلما ارتفعت المدينة نتيجة اقامة المباني الجديدة، وإن كانت على حساب التضحية بقصور تعود للقرون الـ (13 و14 و15) قائلا: "لم يكن أجدادنا عاطفيين تجاه الماضي؛ فلم يقلقوا بشأن الحفاظ على المباني القديمة، بل شيدوا الجديدة ببساطة فوق سابقاتها.. لذا استمر مستوى المدينة بالارتفاع. وبالطبع لا يمكننا الآن القيام بهذا الشيء فلدينا اليوم محددات ثقافية.. لا نريد أن نفقد عمارة عصر النهضة الجميلة التي تميز المدينة؛ لذا فإن هدمها والبناء على أسسها لم يعد خيارا مطروحا.. وعلينا ايجاد طرائق اخرى للحفاظ عليها". 
لفت الفيضان الأخير (الذي غمر نحو 85 بالمئة من المدينة) الأنظار الى التساؤل عن كيفية حماية فينيسيا لنفسها من تزايد مستويات ارتفاع المياه. 
ويبدو أن الحل الأكثر قربا هو مشروع "موس- MOSE"؛ وهو مخطط غير مكتمل بدأ العمل لتنفيذه سنة 2003، يضم 78 بوابة لمنع الفيضان "storm gates"؛ ترتكز بدورها على أربع بوابات واسعة قابلة للسحب عند مداخل البحيرة. جرى تصميم المشروع بحيث يمكن اقفال البحيرة بكاملها بوجه التيارات العالية خلال 15 
دقيقة. لكن المشروع الذي تبلغ كلفته مليارات عدة عانى من تجاوز التكاليف وفضائح الفساد والتأخير؛ وحتى إذا اكتمل، فما زالت الاسئلة تدور حول مدى كفاءته؛ والتخوف من أن الاستخدام شبه اليومي للبوابات سيزيد من تلوث المياه ويغير مسارات مياه الصرف الصحي. 
قد ينتهي المطاف بمشروع "موس" ليكون مثالا مؤثرا لقيام الجنس البشري بكبح قوى الطبيعة بقوة هائلة؛ لكن انقاذ فينيسيا على المدى البعيد قد يتطلب العمل مع الطبيعة وليس ضدها.
وهذا قد يكون بإعادة قوة الطبيعة الى الجزر الحاجزة لتقليل اندفاع تيارات المد، وايقاف النشاطات الصناعية التي تتطلب التجريف وتعميق البحيرة والقنوات المائية.. وهي خطوات جرى اقتراحها بالفعل لاستعادة توازن استمر قائما لقرون عدة بين المدينة ومحيطها الطبيعي. ويمكن لفينيسيا أيضا ان تستفيد من تجارب مناطق اخرى؛ ومنها التجارب الهولندية الرائدة في ادارة المياه، مع اعطاء الاولوية لروحية "التعايش مع الماء".   
 
مستقبل مدينة الأساطير
لماذا تحظى فينيسيا دوما باهتمام عالمي مكثف مقارنة  بمدن أخرى تعاني كوارث مماثلة؟ انها بلا جدال مدينة جميلة تستقطب الكثير من السياح، وتتميز بكونها بنيت على الماء متوزعة على جزر عدة صغيرة، بحيث باتت طرق مواصلاتها الداخلية زوارق تسير في قنوات مائية ضيقة. 
لكن فينيسيا أيضا تتمتع بسحر التاريخ الطويل والعديد من الاساطير التاريخية التي نجحت باستقطاب المساعدات للمدينة مهما كان نوع الكارثة التي تحل بها. ولعل هذا النوع من التقاليد هو الذي يرسم الصورة التي يرى بها العالم فينيسيا اليوم، وهو الذي يمهد لديمومتها. 
سيكون على المدن الساحلية حول العالم مواجهة قضايا ارتفاع مستويات مياه البحر التي تلوح في الافق؛ لكن حالة فينيسيا الحرجة وغير المستقرة تتعلق أيضا بقلة كفاءة السياسات المحلية بقدر تعلقها بالتغيرات المناخية العالمية. لا يترك المستقبل مجالا للتراخي؛ خاصة بتوقعات لحدوث فيضانات رهيبة تتنبأ بتعرض المدينة سنويا (خلال السنوات الخمسين المقبلة) لفيضانات بمقياس ما حدث هذا العام. 
لذا سيكون على مسؤولي المدينة الوصول لما هو أبعد من مشروع بوابات متعثر واتخاذ خطوات عاجلة تجمع بين التحركات قصيرة الامد مع خطوات الأمد البعيد لاستعادة العلاقة الرمزية بين المدينة والبحيرة، وبين الماء والارض، والحضري والطبيعي. 
 
* موقع {آرتش ديلي} 
** موقع "ذا كونفيرسيشن"