هل سيدفع الجناة ثمن رعب دور أيتام « تشاوتشيسكو»؟

بانوراما 2020/01/19
...

ترجمة: ليندا أدور
شون ووكر
مع حلول نهاية العام 1989، عندما قُتل دكتاتورها، توفي نحو 20 ألف طفل داخل دور الأطفال في رومانيا، واليوم، ربما يتم رفع قضايا ضدها بتهم جنائية. 
تلك كانت الصور، التي بالنسبة الى الكثيرين بعموم أنحاء العالم، هي الصورة المعبرة لأحداث أعقبت الثورة الرومانية العام 1989، صور لأطفال بأجسام هزيلة وملابس رثة، يتطلعون الى الكاميرا بعيون يملؤها اليأس وسط تراجع مزر يعم دور الأيتام فيها.
تزامنت أعياد الميلاد الأخيرة مع الذكرى الثلاثين لإدانة نيكولاي تشاوتشيسكو، الدكتاتور الروماني الانعزالي المصاب بجنون العظمة، خلال محاكمة مرتجلة قتل على إثرها بالرصاص مع زوجته، لينهي إعدامه، حكما إمتد لأكثر من عقدين، جلب الفقر والبؤس لغالبية سكان البلاد. 
 
أيام هزت العالم
 
· 1989/12/15 بعد مرور ثلاثة اسابيع على اعادة انتخاب نيكولاي تشاوتشيسكو بالاغلبية الساحقة كأمين عام للحزب الشيوعي الروماني، طردت الشرطة، لازلو توكيس، قسيس وأحد منتقدي الزعيم، من كنيسته بمدينة تيميشوارا، وفي تلك الليلة احتشد العديد من أنصاره حول منزله احتجاجا على قرار تشاوتشيسكو.
· 16-20 /12 تصاعدت الاصوات المؤيدة لتوكيس لتتحول الى احتجاج عام ضد النظام، التي قوبلت بالقوة، اذ تجمع نحو 100 الف شخص في الساحة الرئيسة للمدينة مطالبين تشاوتشيسكو بالتنحي. 
· 21 /12 بالرغم من تزايد الاضطرابات، تم نقل عشرات الآلاف من الأشخاص في حافلات الى ساحة القصر ببوخارست للاستماع لخطاب تشاوتشيسكو السنوي، لكن الجموع بدأت بالهتاف « تيميشوارا، تيميشوارا»، ما دعى تشاوتشيسكو المصدوم، الى الطلب منهم عبر مكبرات الصوت للبقاء في أماكنهم واعدا اياهم بزيادة في الأجور، لكن يبدو أن نفوذه قد تهاوى، وقد نقلت الصور المتلفزة ضعف سلطته على البلاد ككل، لتملأ الحشود شوارع المدينة وقابلها الجيش بالقوة. 
· 22 /12 تواصلت الصدامات، فأرغمت تشاوتشيسكو وزوجته على الهروب من الجموع الغاضبة باستخدام المروحية، لينقلب الجيش الى دعم المحتجين، وتولى أيون أليسكو منصب الرئيس. 
· 23-24 /12 تواصلت الاشتباكات في بوخارست، وحدثت مواجهات بين فصائل مختلفة، التي كانت ترى الجبهة الوطنية للإنقاذ بقيادة أليسكو في الصدارة، وبلغ عدد قتلى الثورة 1100 شخص بعد رحيل تشاوشيسكو عن المشهد.
·25 /12 أدانت محكمة عسكرية بمدينة ترجوفيشت، تشاوشيسكو وزوجته ايلينا، وحكموا بالاعدام، وتم إعدامهم على الفور رميا بالرصاص. 
جرائم الشيوعية
خلال ثلاثة عقود منذ سقوطه، قلة قليلة فقط من الأشخاص واجهوا عقوبات قانونية لدورهم في النظام القمعي الذي اتبعه تشاوشيسكو، إذ لم يتم رفع قضايا جنائية في ما يتعلق بعشرات الآلاف من الأطفال الذين تعرضوا لسوء المعاملة من قبل شبكة النظام الوحشية التابعة لمؤسسات احتجاز الأحداث، لكن كل ذلك يمكن أن يتغير، في القريب العاجل.
ينشغل المدعون العامون بالتحقيق مع عشرات الأفراد الذين تقع عليهم المسؤولية، بصورة مباشرة او غير مباشرة، للوفيات التي حدثت في المنظومة والتي تلت عمليات استجواب طويلة من قبل محققي معهد التحقيق في جرائم الشيوعية، وهي هيئة حكومية مهمتها النظر بالانتهاكات التي رافقت الحقبة الشيوعية. يقول فلورين سواريه، أحد محققي المعهد الذي أمضى سنوات عدة بجمع الشهادات والتي تقدر بأن ما بين عامي 1966 و1989 هناك ما بين 15 الى 20 الف حالة وفاة غير ضرورية بين أطفال شبكة رومانيا لدور الأطفال، وان غالبية تلك الوفيات حدثت في الدور المخصصة للأطفال المعاقين.
يقول سواريه في حوار اجري معه بمقر المعهد المتواضع وسط بوخارست: «عندما بدأنا التحقيق، كنا نعلم بوجود انتهاكات، لكننا لم نكن، أبداً، لنتخيل مديات الجرائم التي ارتكبت». سلم المحققون النتائج التي توصلوا اليها الى المدعين العامين الرومانيين في العام 2017، وقد أبلغت دائرة الادعاء «الأوبزرفر» بأنهم مستمرون بجمع الأدلة «بسبب العدد الهائل من القضايا» ويرجح ان تتم توجيه لائحة التهم الرسمية العام المقبل.
تسير عملية تسليط الضوء على جرائم الحقبة الشيوعية ببطء، اذ تقول آنا بلانديانا، وهي شاعرة نجحت بتحويل سجن سابق يعود للفترة الشيوعية بمدينة سيغيت على حدود رومانيا مع اوكرانيا، الى متحف، هو الوحيد في البلاد عن جرائم الشيوعية. 
 
السكيوريتات
القلة فقط من الدائرة الداخلية لتشاوتشيسكو هم من جرى محاكمتهم بعد الثورة، وقد انتهت بالفشل محاولات كثيرة لإدانة آخرين بجرائم محددة باستثناء البعض منها. أخيرا، وبعد سنوات من التأخير، بدأت ببوخارست في تشرين الأول الماضي محاكمة أيون أليسكو (89 عاما الآن) الذي تولى منصب الرئيس الانتقالي لمرحلة ما بعد تشاوتشيسكو، بتهمة ارتكابه جرائم ضد الانسانية ودوره بأعمال العنف التي استمرت بعد هروب تشاوتشيسكو. وكانت إحدى محاكم بوخارست، برأت الشهر الماضي، اثنين من الضباط السابقين من أفراد الشرطة السرية إبان الفترة الشيوعية، أو «السكيوريتات» عن جرائم ضد الانسانية وعن مقتل المنشق جورجي أورسو، الذي توفي اثناء احتجازه في العام 1985 بعد تعرضه للتعذيب من قبل سجانيه.
تقول بلانديانا: «ان الهدف منها هو ليس إيداع رجال تجاوزوا التسعين من العمر الى السجن، لكن الهدف الحقيقي هو تغيير جو البلاد، وقول الحقيقة حول ما جرى تلك الفترة، الى جانب نقل هذه الحقيقة بهدف غلق هذا الفصل». في بوخارست، لا يوجد متحف عن الشيوعية، وان متحف تأريخ المدينة انتهت معروضاته منذ العام 1918، وترك زواره في حالة سؤال عن المكان الخاص بالقرن العشرين وهو القسم الذي تهتز رؤوس زواره غضبا. تعد دور الأيتام، نقطة ذات أهمية وحساسة، اذ يعتقد الكثير من الرومانيين ان الشهرة الواسعة التي حظيت بها الصور واللقطات الخاصة بها، الى جانب حملة التبني الدولية الضخمة التي تلت ذلك، ما هي الا وصمة عار لسمعة البلاد من الأفضل نسيانها. 
بدأت دور الأيتام في البلاد تمتلئ منذ أواخر عقد ستينيات القرن الماضي، عندما قررت الدولة أن تقاتل من أجل أزمة ديموغرافية من خلال منع الاجهاض وحظر بيع وسائل منع الحمل. لم يكن الكثير من نزلاء دور الأيتام هم أيتاما بالفعل، بل كانوا من اولئك الذي شعر أباؤهم بأنهم غير قادرين على تحمل الأعباء المالية لتربية طفل. حدثت أفظع أنواع الاساءات في دور لأطفال معاقين، تم إبعادهم عن أسرهم وإضفاء الطابع المؤسسي عليهم. ويتم تصنيف الأطفال المعاقين، في سن الثالثة من العمر، عن طريق لجان المشافي الطبية، الى ثلاث فئات، الأولى هي ما يطلق عليها «القابلة للعلاج» والثانية «قابلة للعلاج جزئيا» والثالثة هي «غير القابلة للعلاج»، ومن يتم تصنيفه ضمن الفئة الثالثة، البعض ممن لديه إعاقات بسيطة او لا يعانون أي منها، ربما يكونوا قد عاشوا ظروفا قاسية. 
 
عضة برد وجرذان وأقفاص
بعموم أنحاء البلاد، يوجد نحو 26 مؤسسة تعنى بتموين الأطفال المعاقين من الفئة الثالثة، لذا اختار المحققون من معهد التحقيق في جرائم الشيوعية، ثلاثة منهم للتحقيق معها، ليجدوا نسب وفيات مروعة بين الأطفال، اذ يشير سواريه الى ذلك بقوله: «لم يتوفوا بسبب الإعاقة التي يعانون منها، وإنما كانت 70 بالمئة من حالات الوفيات المسجلة تتعلق بالتهاب رئوي، فكانوا يموتون لأسباب خارجية كان بالامكان الوقاية منها أو علاجها». ومع استمرار التحقيق، كشف المحققون عن تفاصيل مروعة أكثر، إذ وثقت شهادة لأطفال كانوا يعانون من عضة البرد، وأطفال آخرين كانت تأكلهم الجرذان، بالمعنى الحرفي، او لأطفال محتجزين داخل اقفاص، أو ملطخين ببرازهم. 
قيّد المحققون وجود 771 حالة وفاة، ظنوا انه كان بالامكان منعها داخل المؤسات الثلاث، أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وهو مؤشر على ان العدد الكلي لدى عموم المؤسسات البالغة 26 مؤسسة وعلى مديات أطول، هو أكثر بكثير. «ليست هناك من وثيقة تثبت هذا الكلام، لكن يبدو واضحا بأن الهدف النهائي منه هو حملة إبادة»، والكلام لسواريه. ان قائمة اولئك الذي يعتقد معهد التحقيق أنه يجب محاكمتهم عن تلك الوفيات، يتم تصنيفها، وانها قد تشمل موظفون مسؤولون بشكل مباشر عن تلك الاساءات فضلا عن موظفين في النظام الشيوعي. 
بعض الأطفال ممن قضى طفولته في تلك المؤسسات، كانت لديه مشاعر مختلطة، حول اذا ما كانت احالة القضايا الى المحاكم فكرة صائبة، بعد مرور ثلاثة عقود. أحدهم هو فلورين كاتانيسكو، (يبلغ من العمر الآن 41 عاما) الذي أُبعد عن والدته منذ ولادته، وكان يتلقى علاجا نفسيا منذ ذلك الوقت، لينشأ في كنف سلسلة من دور الأيتام. يستذكر كاتانيسكو، حالات سوء المعاملة، لكنه يعتقد بضرورة التركيز على المستقبل وليس الماضي بقوله: «من الأفضل ان نركز على المضي ايجابيا الى الأمام، والتأكيد على ان مثل هذه الأشياء لا يمكن حدوثها ثانية». يدير كاتانيسكو، اليوم، منزلا يقع بمنتصف الطريق لمدينة براشوف، حيث يأوي فيه خريجو دور الأيتام، هذه الأيام، ومساعدتهم على الاندماج داخل المجتمع. بالنسبة لكاتانيسكو، فالحياة هي تعويض ما فاته من وقت سرقه منه نظام الاعتقال القمعي، يقول: «لا أحتفظ بأي ذكريات حقيقية، تبدو وكأنني لا طفولة لدي، لذا، كوني حرا الآن، أحاول أن أقوم بكل الأشياء التي كنت أتمنى القيام بها في طفولتي».
 
ساديون حقيقيون
أما ايزيدور روكل، الذي قضى 11 سنة بواحدة من تلك المؤسسات المخصصة للحالات المفترض انها «غير قابلة للعلاج» جراء اصابته بالشلل وهو رضيع، تبنته عائلة أميركية وغادر رومانيا في العام 1991، ويعيش اليوم في دنفر بولاية كولورادو. يستعيد روكل ذكرياته عن وجود بضعة من الساديين الحقيقيين ضمن كادر مؤسسته، بضمنهم إمراة «يمكن ان تشعر أن في عروقها عشقا لسوء معاملة الاطفال» وكانت على درجة من العدائية، انها، أحيانا، كان يتوجب تقييدها من قبل موظفين آخرين. يستذكر روكل تعرضه لضرب مبرح وغيرها من أنواع سوء المعاملة، الى جانب، مشاهدته، بين الحين والآخر، اطفالا آخرين يتعرضون لتخدير أو تسكين قسري أو الضرب العنيف أو ربطهم بالأسرّة، «هناك أطفال تعرضوا للضرب ليتوفوا على اثره في اليوم التالي». بالرغم من ذلك، لدى سؤاله حول اذا ما كان يريد رؤية موظفين محددين، ممن قد لا يزالون على قيد الحياة، تتم محاكمتهم، اجاب روكل بتردد بقوله ان الله وحده هو من يحكم، وسيكون من الأفضل ان «نترك هذا الأمر» بعد مرور كل تلك السنين. 
يشير روكل الى أن العديد من افراد الكادر، كانوا محبطين بسبب طبيعة النظام اللاانسانية، اذ يقول: «لا أوجه اللوم لهم، فالكثير منهم لم يكن يعلم ماهية العمل مع أطفال معاقين»، مضيفا «كان من غير الممكن على قلة من الناس أن تدير هذا العدد الكبير من الأطفال، كان كثيرون يتعاطفون معهم لكنهم يتعرضون للعقوبة من قبل عاملين آخرين أكبر سنا وأكثر حقدا اذا ما استمروا بابداء المساعدة أكثر».
 
التصالح مع الماضي
في العام 2016، عاد روكل الى رومانيا لتصوير فيلم وثائقي عن نشأته، وبحث عن أطفال وموظفين سابقين في مؤسسته، وقد صدم الكثير بسبب كم الذكريات الفظيعة التي يحملها. «أنكروا العديد من الأمور، كان علي إعادة إحياء تلك الذكريات لديهم، ليقروا بعدها، بأن ما اقترفوه كان سيئا وشريرا، لكني على ثقة تامة بأن غالبية هؤلاء 
يشعرون بالندم حقا على ما فعلوا»، والحديث لروكل. 
لكن، بالرغم من ذلك، يبدو ان ليس كل من عمل مع النظام قد دمره الشعور بالذنب، حيث نقلت أحدى الصحف الرومانية عن واحد من كبار الموظفين من العاملين في واحدة من مؤسسات نظام تشاوتشيسكو قوله: «لم تكن هناك حاجة لوجود اختصاصيين، لأنهم تشخيصهم كان «غير قابل للعلاج»، مضيفا «لماذا تضيع وقت الاختصاصي مع شخص لا يمكن معالجته؟ هناك أطفال مخبولون ولا يمكن شفاؤهم في كل مكان، هم يدمرون كل شيء، ونحن نقوم بعمل «سيسيفوس» (أحد أكثر الشخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية) من تغيير ملابس وملاءات، كان يتجردون من ملابسهم ويقفون عراة كالقردة». بالنسبة لسواريه، الذي قضى سنوات في التحقيق بجرائم سوء المعاملة والانتهاكات، فان محاكمة مرتكبيها سيكون له صدى واسع، مشيرا بقوله: «ان الجراح التي ألحقها تشاوتشيسكو بالمجتمع لا تزال مفتوحة وهذا جزء من عملية التصالح مع ماضيك». 
 
*صحيفة الأوبزرفر البريطانية