التظاهرات ومشروعية الدولة

آراء 2020/01/20
...

علي حسن الفواز
 
ما يجري في الشارع العراقي لم يعد خاضعا لفرضيات مجردة في التحول الاجتماعي أو التحول السياسي، ولا حتى لمجريات الواقعية السياسية، وطبيعة ما تطرحه العملية السياسية من استحقاقات، بل صار الأمر مرهونا بجدية هذا الذي يجري، الذي يخصّ بناء الدول والعملية الديمقراطية، وحتى الاستجابة الحقيقية لما يُطالب به الشارع من حقوق تمّ تسويفها، والتجاوز عليها كثيرا. خطورة الواقع جعلت مجرى السياسة مفتوحا على احتمالات متعددة، وعلى مسارات قد تُهدد السلم الأهلي، أو تكون باعثا على تدخلات خارجية، 
وربما ستجعل من العراق ميدانا لتجاذبات وصراعات، ولمواقف من الصعب السيطر على تداعياتها، ومردّ ذلك للأسف يعود الى سوء إدارة السياسة، وللتسييس المُفرط للإدارة، ولتغليب المصالح الحزبية والجماعوية على المصلحة الوطنية العامة، التي أصابت هيكل الدولة بالهشاشة، وسمحت لقوى الهامش السياسي أنْ تتحول الى متنٍ يملك إرادة السيطرة والقرار، بما فيها القرارات التي تخصّ شرعية الدولة ومصير المجتمع.
لقد أفرزت التظاهرات الشعبية أفقاً جديدا للتداول السياسي، ولعلاقة السياسة بالجمهور، ولعلاقة الجمهور بالسلطة، ولعلاقة السلطة بالهوية الوطنية، وبقدرة هذه الهوية على أن تكون جامعا وطنيا، أو رهانا واقعيا على حماية مشروع الدولة الوطنية من التهديدات الخارجية، ومن التدخلات والأجندات التي أضحت عقدة كأداء أمام  مسؤولية بناء هيكل الدولة ومؤسساتها، وأمام قدرتها وكفاءتها على مواجهة الفساد الطاعن، والترهل الذي استشرى في مفاصلها.
إن كلّ سياسة تتطلب سلطة، وكلّ سلطة هي قرين عمل مؤسسي يقوم على شرعنة إطار الدولة،  وبـهذا الشكل التاريخي تكون الدولة، وتكون تمثلاتها السياسية والادارية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، مثلما تكون الدولة هي القوة الحاكمة، والفاعلة وصاحبة "الهيمنة التاريخية" التي تمارس مسؤولياتها عبر القانون، وعبر الحق العام، وعبر حماية الجميع، بما في ذلك حماية الأفكار والناس والحقوق والخيارات. لكن ما يجري، وما يفرزه الشارع العراقي اليوم، يضع كثيرا من علامات الاستفهام حول توصيف المفاهيم، ومنها مفاهيم الدولة والهوية والسلطة والقانون والحق، إذ بات الأمر رهينا بالعنف وبالفوضى، وبعجز الدولة عن أن تطرح خطابها العقلاني الواضح، وأن تتفاعل مع الخطاب التظاهري، وعبر فرز ما هو سلمي وحقيقي فيه، وبين ما يمكن تسميته بالخيار السلبي الذي يرتبط بالمصالح والأجندات الخارجية.
 
العقل التظاهري ومسؤولية النقد
رهان التظاهر على التغيير هو هدف سامٍ ومشروع، مثلما هو رهان عقلاني يقوم على تغليب مسؤولية النقد لمواجهة مظاهر الفساد والخراب والفشل، لكن حينما يمارس الـ " بعض" رهانات أخرى لها علاقة بغلو العنف، وبتعطيل المصالح العامة، وبإشاعة روح الكراهية، فإن الأمر يحتاج الى المراجعة والى النقد كذلك، فما يتجوهر حول فكرة التغيير يظل مشروعا بقدرته على صياغة خطاب وطني واضح، وعلى مواقف ومطالب تعزز من مسار التغيير، وبعكس ذلك فإنّ ما يحدث في الشارع من عنف مفرط، ومن نزوع نحو التجاوز على المصالح العامة قد يجرّ معه الأحداث الى معطيات من الصعب الرهان عليها، لاسيما أنّ العراق السياسي يواجه تحديات خارجية كبرى، وتحديات أمنية أكثر تعقيدا، وهو ما يعني الحاجة الى وعي عميق بالمسؤوليات، وبإدارة ملف الأزمة، وبمواجهة كل الذين يحاولون جعل الفضاء التظاهري فضاءً للتغالب وللعنف والعنف المضاد، فضلا عن ضرورة عمل الرئاسات الثلاث على إدراك خطورة مايجري، والإسراع باتخاذ الاجراءات المناسبة، على مستوى اختيار رئاسة جديدة للحكومة، وفريق وزاري، وقانون انتخابات وإعلانه بالجريدة الرسمية، وكذلك الاتفاق على تحديد سقوف زمنية للانتخابات القادمة، وإخراج العراق من لعبة التجاذبات الاقليمية والدولية.
إن مسؤولية النقد ترتبط بمسؤولية المواجهة، وبفاعلية دفع المكاره، وبمواجهة المظاهر الفاسدة التي تراكمت، وتضخمت، التي قادت الى رفض المجتمع لها، وإطلاق التظاهرات الكبرى كقوة اجتماعية للتعبير عن هذا الرفض، وعن الحاجة الى التغيير، والى إعادة تأهيل الدولة ومؤسساتها لتكون بمستوى حاجة الناس اليها، وحاجة بنية الدولة الحديثة والقوية، فمنذ ستة عشر عاما ومظاهر الفشل والفساد تنخر في مؤسسات الدولة، مقابل عجزها عن معالجة مشكلاتها البنيوية التي تتعلق بهويتها، وبقدرتها على تعزيز قيم العدل والحرية والسلم الأهلي والحق العام والخاص، فضلا عن عجزها في معالجة مشكلات البطالة والتضخم والترهل، وضعف الخدمات في المجالات الاقتصادية والتعليمية والصحية والثقافية والبلدية وغيرها.
 
التظاهرات وفاعلية الشعارات
قد يكون الشعار الرئيس "نريد وطن" هو الغالب في التعبير عن هوية التظاهرات، وبقدر ما في هذا الشعار من رومانسية وثورية، فإنه يحمل معه، كذلك، وعيا بالحاجة الى حقيقة هذا الوطن، في وجوده، وفي ضرورته، وفي تمكين الناس من أن تعيش بسلام ورفاهية، بعيدا عن شبح الحروب والصراعات التي تورط فيها العراق السياسي منذ أربعين عاما، وبعيدا عن العوز والحاجة، واستشرافا لأفقِ حياة جديدة، يستعيد فيها المواطن كبرياءه وحريته، وحضوره الإنساني في العالم، فتاريخ الحروب والصراعات أورث العراقي توصيفات مرعبة، جعلت جواز سفره في مؤخرة التصنيفات العالمية، وجعلت من المواطن نفسه محط شكوك في المطارات وفي الدعوات وفي المشاركات الدولية، وحتى في الحصول على سمات السفر الى هذا البلد أو ذاك.
إن الحاجة الى المراجعة، وإلى وضع التظاهرات في سياقها القانوني هو هدف إنساني، ليس لتوسيع مدى التظاهر، بقدر ما هو ترسيخ لأهمية الديموقراطية في أن تكون فضاءً للمشاركة، وخيارا للدفاع عن الحقوق والحريات، ووسيلة لرفض الفساد والعجز، وهو ما ينبغي التعاطي مع حقيقته، ومع فاعليته، ومع أهدافه، التي تتطلب "مُفاعلة" حكومية وتشريعية بالمستوى المطلوب، لكي تتعزز الثقة بشعبنا أولا، والثقة بمؤسسات الدولة وبمشروعية قبولها بالديموقراطية ثانيا.