تركــيا وروسيـا فــي ليبيـا

بانوراما 2020/01/21
...

م. ك. بهادراكومار     ترجمة: مي اسماعيل 
 
 
لا ريب أن دعوة ليبيا طالبة الدعم العسكري من تركيا وإعلان الاخيرة الفوري (خلال الاسبوع الاخير من العام الماضي) بجاهزيتها لتلبية الطلب بداية كانون الثاني الحالي انما هو تسلسل للأحداث مصمم بعناية. إذ تتحرك طرابلس وأنقرة بصورة متزامنة؛ فقبل يوم من الاعلان التركي قام الرئيس التركي اردوغان بزيارة "سرية" الى تونس استمرت يوما واحدا؛ لينظم محورا اقليميا يضم تركيا وقطر وتونس والجزائر حول الأوضاع الليبية. ومن جهة المنظور التركي، فإذا كانت ليبيا تحت حكم ديكتاتوري (كما هو حال مصر)؛ فإن تهديدًا مماثلًا قد ينشأ ضد ديمقراطية "الربيع العربي" في تونس أيضا.

تحرص تركيا وليبيا للحصول على دعم اقليمي لمواجهة هجوم الجنرال المنشق "خليفة حفتر" للاستيلاء على طرابلس. ويحظى حفتر بدعم روسيا ومصر والامارات والسعودية؛ وهي تركيبة وعرة! ومن جهة اخرى، إدعى اردوغان علنا أن آلاف المرتزقة الروس والسودانيين يعملون لصالح حفتر، كما أن لدى الامارات قاعدة في تركيا تنطلق منها الطائرات المسيّرة.؛ ولذا أبرز أردوغان بفاعلية لهجة موسكو المزدوجة حول "تغيير النظام". ويظهر المأزق الروسي بوضوح عبر التصريحات الدفاعية التي أدلى بها المتحدث باسم الكرملين "ديميتري بيشكوف" في موسكو يوم 26 كانون الاول الماضي. كان بيشكوف تحت ضغط كبير لإعطاء تفسير مقنع لوجود المرتزقة الروس المحاربين في سوريا، كما ادعت واشنطن أن موسكو نشرت مؤخرا قوات نظامية في ليبيا. لم يقل بيشكوف حينها سوى أن.. "مواطنين من مختلف دول العالم يحاربون بصفة مرتزقة في مناطق متنوعة من العالم؛ ومن المستحيل على الدول السيطرة على تحركات جميع مواطنيها"؛ والواقع إنه ليس بالتبرير الكافي. 
 
مواجهة غير محبذة
إن قيام أردوغان بنشر قواته في ليبيا (بعد استحصال موافقة البرلمان التركي)، يجعل قوات بلاده بمواجهة القوات الروسية؛ بيد أن كلا من روسيا وتركيا لا ترغبان بمثل تلك المواجهة التي قد تفسد علاقتهما الدافئة والمتنامية. وفي هذه الاثناء تستفيد موسكو أيضا من وضع محافظة أدلب شمال غرب سوريا، وهي آخر معقل باقٍ للمجاميع المتطرفة؛ إذ صعّدت القوات السورية (التي تدعمها روسيا) من هجومها مؤخرا، مهددة بوجبة جديدة من النازحين نحو الحدود مع تركيا. وقال أردوغان إن القصف السوري- الروسي على أدلب أدى لهروب نحو ثمانين ألف شخص باتجاه حدود بلاده. وكشف مساعده الاول "ابراهيم كالين" أن أنقرة طلبت من روسيا اعادة تفعيل وقف اطلاق النار في أدلب، وأن.. "الجانب الروسي أخبر مبعوثنا بأنهم سيبذلون جهدهم لايقاف الهجمات 
السورية".  
تحتفظ موسكو "بورقة ادلب"، لذا فمن غير المرجح أن تسحب دعمها لحفتر؛ إذ ترى موسكو هنا مدخلا لفرصة أن تكون اللاعب الاكثر تأثيرا في ليبيا إذا سيطر حفتر على طرابلس. فربما كان الجنرال المنشق من "موارد" وكالة المخابرات المركزية الاميركية في الماضي؛ لكنه اليوم بات "وغدا"؛ بعدما احتلت واشنطن مقعدا بجانب نافذة الصراع الليبي. كذلك تغطي القدرة العسكرية الروسية على قدرات مساندي حفتر الآخرين: مصر والامارات. تمول موسكو ذاتيا تدخلها في ليبيا، مع قيام السعودية بتمويل حفتر. وفوق كل اعتبار يمكن القول أن روسيا تخدم أيضا مصالح مصر والسعودية والامارات؛ التي تشعر حكوماتها بالرعب من تحول ديمقراطي في ليبيا (على غرار تونس أو الجزائر) قد يقود في نهاية المطاف لصعود الاخوان المسلمين؛ كما حدث سابقا مع مصر.  وباختصار يمكن القول أن وجود "رجل قوي" يحكم ليبيا بقبضة حديد أمر يناسب روسيا ومصر والامارات والسعودية. 
 
"البوابات الثلاث" والتاريخ
تدفع موسكو باتجاه "أجندة" كبيرة في ليبيا؛ ففضلا عن احتياطيات ليبيا النفطية الكبيرة؛ يمكن أن يقدم موقعها لروسيا قواعد قرب "خاصرة الناتو الطرية" في البحر المتوسط، وهذا يمكنه دعم القواعد في سوريا والمساعدة لتغيير الدايناميكيات الجيو- سياسية شرق المتوسط. كذلك سيُجبر الوجود الروسي الكبير في ليبيا الاتحاد الاوروبي على التفاوض مع موسكو حول قضية تدفق اللاجئين من شمال افريقيا الى أوروبا؛ ما قد يؤدي إلى مشاركة بناءة، على الرغم من عقوبات الاتحاد الأوروبي. تتضح هنا أهمية توافق المصالح الروسية والتركية في ليبيا وتجنب نقطة الصِدام؛ فالتدخل التركي سيُعقّد خطط روسيا الدقيقة لشرق المتوسط، وعلى الجانب الآخر فإن روسيا هي القوة الوحيدة التي تقف في طريق الطموح التركي لاستعادة مجدها العثماني التاريخي أو تخفيف العزلة الإقليمية عن طريق كسر تكتل القوى المجتمعة ضدها شرق المتوسط (اليونان وقبرص واسرائيل ومصر) بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي. تتشابه اعتبارات تركيا مع الاعتبارات الروسية؛ متراوحة بين النفط والجغرافية السياسية، وقد يكون من المؤكد أن الرئيس الروسي بوتين حاول خلال زيارته الاخيرة لأنقرة الاسبوع الماضي إقناع التركي أردوغان بالعدول عن مساره الحالي، ولدى التحليل النهائي للموقف يتبقى للمراقبين أن يعرفوا كيف ستتعاون الدولتان في ليبيا كما فعلتا مع الجبهة السورية. 
تضم منطقة شرق المتوسط " البوابات الثلاث" الى أوروبا وأفريقيا وآسيا، ويمكن تتبع تنافس القوى العظمى هناك تاريخيا الى ما لا يقل عن العام 1453؛ حينما سيطر السلطان العثماني محمد الثاني على القسطنطينية. يتحدث الباحث والكاتب الإيطالي الشهير "فرانشيسكو سيسكي" مؤخرا حول التاريخ المؤثر لمنطقة شرق البحر المتوسط (معرجا على التنافس التركي- الروسي): "تنافس الاتراك والروس لعدة قرون، سعيا وراء السيطرة والوصول الى البحر المتوسط. كان للاتراك أساس سيطرة كاملة على البحرين الاسود والمتوسط حتى بعدما هُزموا بوضوح عند حصار فيينا سنة 1683، وخلال العقود التالية تحركت روسيا لدفع الاتراك بعيدا عن بحر آزوف، وبعد نحو قرن من الزمن هزموا خانات القرم وثبتوا أنفسهم على الشواطئ الشمالية للبحر الأسود. ولكن كان عليهم الانتظار حتى بداية القرن التاسع عشر للتحالف مع البريطانيين ضد نابليون ليتمكن الاسطول الروسي من التحرك في البحر المتوسط بسلاسة، وعقد تحالف مع مملكة نابولي (جنوب ايطاليا)؛ أولا ضد الفرنسيين ثم ضد الانكليز. ولم يُطرد الروس من جنوب ايطاليا الا بقيام حملة غاريبالدي عام 1860 إلى الجنوب بدعم من الإنكليز. أما اليوم، فيبدو أن الامتداد البطيء (والحثيث) للروس والاتراك في ليبيا يتبّع النمط القديم، ضمن لحظة تاريخية نادرة يتعامل فيها الطرفان جيدا مع بعضهما ويحذران تهديدات بعضهما 
البعض".