بعد العام 2003، بدأت حملة إعلامية وسياسية داخلية وخارجية هادرة، الغرض منها توجيه وبثّ التحريض على العنف دون كلل أو ملل يهدف لاستعداء العقول ونشر الافتراءات والشائعات وتشويه وتزييف الحقائق وإخضاع الأفكار والأذهان لتقبّل مفهوم التحريض والالتفاف على مقومات بناء الدولة بعد عقود من مصادرة الرأي والحياة، فبدأت بعض وسائل الإعلام، ومنها القنوات الفضائية المتمترسة خلف المال والخطاب الموجّه والكلام المقنّع المنمّق الجميل، بضخّ كل أنواع التحريض المستمر كنوع من الأفيون والعقاقير السامّة التي تهدف الى دغدغة المشاعر واستفزاز خيال بعضهم وإثارة حماسه واندفاعه وتوجيهه نحو ارتكاب الأفعال التخريبية التي يرفضها الجميع. وكان التسويغ بأن التخريب وحرق الممتلكات الخاصة والعامة، هو نوع من أنواع الرفض والاحتجاج يوهمون من يصدقهم على أنه شجاعة وحرية في إبداء الرأي. ظلت تلك القنوات تحرض بالكلام المعسول المغمّس بالسم الزعاف المهدِّد لأمن البلاد ووجوده عبر الايحاءات والايماءات مرة ، وبتزييف الحقائق على الأرض مرة أخرى. وهنا قد يحقق هذا الإعلام الموجّه بعض أهدافه حين يجد الذين تأثروا به قد توجهوا فعلا لارتكاب بعض الأفعال المشينة التي تندرج ضمن تصنيف التخريب الذي يضرّ بكل ما هو مشروع ومتاح، فنكون أمام معضلة كبيرة ومعقدة هي خشية الوقوع في دائرة التسطيح الفكري وتصديق الأوهام والمبالغات وصناعة القصص المفبركة عمّا يحصل. إن الجهد الذي نراه مبذولا، من بعض القنوات الفضائية تحديدا، عن الوضع العراقي، يتّسم بالتهويل وبثّ المخاوف والرعب عبر نشرات الأخبار المضخّمة للوقائع أو عبر الضيوف الذين يحاولون الحديث
بكل طلاقة وحماس عن الحقائق التي تتحول بألسنتهم الى أحداث مروعة ومصائب وفواجع، تدفع بعضهم الى ترجمة هذا التحريض و التصرف وفق المنظور الذي فهمه فيعمّ الخراب الذي يعتقده أنه تصرف احتجاجي مع أنّه قام بحرق وتهديم الممتلكات الخاصة
و العامة تحديدا، التي يفهمها على أنها تتبع هذا الطرف أو ذاك متناسيا أنها تابعة للدولة التي له نصيب
فيها.
يقول نعوم تشومسكي في كتابه (هيمنة الاعلام، الإنجازات المذهلة للدعاية): (لا تبدو براعة وسائل الإعلام وقدراتها الفائقة على صناعة القبول، عندما تلتزم بحد أدنى من المستوى الأخلاقي على الإقناع، إنّما تظهر براعتها بقدر ما تنجح في صرف أنظار الناس عن صميم المشكلات، وفي طمس الحقائق واختلاق البدائل وتزيينها في أعين الناس لتغيير قناعاتهم حوله). وهذا يعني أن وسائل الإعلام الموجّهة تلك، تعمل في الليل و النهار على إقناع المتلقي الذي يشعر أنه إزاء حقائق وأسانيد يجب تصديقها طالما أنه سمعها من قبل المذيعات المنمقات اللواتي يقرأن تلك الأخبار بطريقة مدروسة لالتقاط المتلقي الذي يؤمن بمصداقيتها على حساب الهمّ الوطني والإنساني. إن ما يدور في العراق اليوم، هو تظاهرات سلمية خرجت مطالبة بحقوق مشروعة اعترفت بها الحكومة قبل أن تتحول الى حكومة تصريف أعمال، وقد حدد المتظاهرون سلميتهم وظلوا واقفين في ساحات التحرير رافضين ما يحصل من عمليات تحريضية تؤدي الى أعمال العنف والترويع والعبث بمشاعر الناس وإرعابهم. إن مفاهيم الإعلام الموجّه الذي يدار من قبل عقول وجهات تحاول تأزيم الوضع، هي مفاهيم تعوّد عليها المواطن واصبحت نوعا من المماحكات والترّهات التي أدركها وفكّ ألغازها رغم هول المعلومات المفبركة وحجم الدهاء الهائل والأموال المصروفة لتمريرها، ويتأتى فهم الناس تلكَ الألاعيب لمدى الوعي والنضج الذي توضح خلال التجربة على مدى السنوات الماضية من سهولة الحصول على المعلومة من مصادر عديدة على امتداد واتساع الفضاء المعرفي. إنّ التحريض الذي نسمعه واقعا ملموسا هدفه حرف البلاد الى منزلق خطير لا نعرف مداه وهذا ما تسعى إليه بعض الأطراف التي أدمنت التزييف والتهويل.