ما عواقب خروج أميركا من المنطقة؟

بانوراما 2020/01/24
...

سايمون تسدال
ترجمة: خالد قاسم
الأزمة التي أشعلها اغتيال دونالد ترامب للجنرال قاسم سليماني بلورت التفكير الرسمي الايراني حول مطلب واحد جوهري: أن تجمع القوات المسلحة الأميركية أسلحتها وتغلق قواعدها وتغادر الشرق الأوسط الى الأبد، والغريب أن ترامب يبدو موافقا على ذلك. في اشارة الى الضربات الانتقامية على أهداف أميركية، أعلن المرشد الايراني آية الله علي خامنئي: “هذا العمل العسكري ليس كافيا، والمهم هو انهاء الوجود الفاسد لأميركا”.
أما الرئيس الايراني حسن روحاني فقال أن الرد الوحيد كان “طرد كل القوات الأميركية من المنطقة.”
لا يختلف هذا الموقف الايراني كثيرا عن آراء ترامب، نظريا على الأقل. وكرر الرئيس الأميركي موقفه الميال لتقليل وجود قوات بلاده حول الشرق الأوسط، واتجه نحو هذه الغاية بشمال سوريا العام الماضي مع نتائج فوضوية أرعبت حلفاءه وأفرحت تركيا وروسيا والحكومة السورية.
لم يقترح ترامب مطلقا تراجعا شاملا، ففي حالة اسرائيل سعى الى روابط أمنية وسياسية أوثق، وتقرب من العائلة السعودية المالكة، ومع ذلك وبناء على خطاباته وتغريداته فترامب غير مقتنع بالنقاشات التقليدية المؤكدة على الأهمية الستراتيجية الكبيرة للمنطقة بالنسبة لبلاده. يعد موقفه ايديولوجيا بجانب منه وشخصيا بجانب آخر، فعندما تعهد ترامب عام 2016 بإنهاء “الحروب الأبدية” لبلاده بحملته الانتخابية، كان يشير تحديدا الى تركة بوش وأوباما في العراق وأفغانستان. ورفض ترامب كلا الاحتلالين لأنهما بنيا على أساس خاطئ ومضيعة للأرواح وأموال الضرائب. ويستهجن ترامب نمط توني بلير للأفكار الليبرالية عن المجتمع الدولي باعتباره جماعيا وإلزامية “التدخل الانساني” وبناء الأمة.
 
دوافع اقتصاديَّة
ترامب مهتم بالأسواق وليس الأخلاق، وليست لديه رؤية عن الصالح العام وليس لديه احساس بالمهمة الأميركية العالمية سوى وضع أميركا أولاً. وتحدث مؤخرا عن التقارب الافتراضي مع ايران، اذ ركز كرجل أعمال على امكانيات طهران الاقتصادية غير المستغلة ومواردها الطبيعية.
توجد أسباب أخرى، من الجانب الأميركي، للسؤال عن مدة بقاء وجودهم العسكري ويشمل قواعد ومنشآت ضخمة في العراق والسعودية والبحرين والكويت وقطر والإمارات وسلطنة عمان وأفغانستان. أحد تلك الأسباب التي ذكرها ترامب هو أن أميركا الحالية أقل اعتمادا على النفط المستورد.
لكن ما يسمى “عقيدة كارتر” وأعلنها الرئيس جيمي كارتر بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، عدّت المنطقة (ونفطها) محمية أميركية بحكم الواقع، وذكر كارتر آنذاك “محاولة أية قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج الفارسي ستعد اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة.. وسوف نتصدى لها بكل الوسائل الضرورية، وتشمل القوة العسكرية.”
في الواقع، كان كارتر مكملا لدور بلاده ما بعد العام 1945 وما بعد قناة السويس بالاستيلاء على صدارة القوى الخارجية في الشرق الأوسط بدلا من بريطانيا، ومع مرور الوقت تنامى وجودها. لكن الزمن يتغير من جديد، ويعود الفضل الى ازدهار النفط الصخري لتصبح واشنطن أكبر منتجي العالم للنفط الخام، ولم تعد خطوط إمداد الشرق الأوسط مهمة كثيرا.
الأولويات الجيوسياسية متغيرة أيضا، فالولايات المتحدة حاليا أكثر تركيزا على الصين كمنافس اقتصادي وعسكري، وعلى الدفاع عن مصالحها عبر منطقة آسيا المحيط الهادئ، من كبح النفوذ الروسي أو اصلاح الشرق الأوسط. ويعتقد ترامب أن حلفاءه في المنطقة، مثل دول الناتو، يجب أن يزداد اعتمادهم على أنفسهم.
من المؤكد أن واشنطن قلقة بسبب السلوك الايراني من جهة ومن الارهاب المتطرف من جهة اخرى، ويتوق ترامب الى مجد تثبيت اتفاق سلام في فلسطين، لكن سياسة التوسع العسكري الصيني ومبادرتها الحزام والطريق “دبلوماسية الديون” وخطوط التجارة المفتوحة في بحر الصين الجنوبي والديمقراطية في تايوان وهونغ كونغ هي أكبر مخاوف واشنطن وأطولها مدى.
من الجانب الايراني، لا ينبع الطلب بانسحاب واشنطن من المنطقة ببساطة من مظالم قديمة تعود الى انقلاب 1953 ضد رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا محمد مصدق، مع أنها تشكل دورا، ولا تريد ايران مجرد خروج أميركا ليتسنى لها التصرف بحرية مع أن من المستبعد تخليها عن طموحاتها كصانع قرار إقليمي. 
 
مزايا الاستقلال
يسود اعتقاد راسخ في طهران أن الشرق الأوسط عموما سيكون أفضل حالا اذا لم يعد مكانا لتنافس القوى الكبرى والجيوش الأجنبية والأوهام الاستعمارية. يؤيد معظم المتعلمين الايرانيين الغرب، لكن روح الثأر الاميركية بعد 1979 منعت التطبيع.
يوجد سبب آخر للاعتقاد أن الدول الاقليمية المعادية قد تحل اختلافاتها بسهولة أكبر اذا لم ترجع الى أميركا، أو تلقي باللوم عليها، عندما تدخل بحالة نزاع. فعندما تراجع التزام ترامب تجاه الأمن الاقليمي العام الماضي، اتخذت السعودية وقطر خطوات لتسوية خلافاتهما.
أدت المخاوف الأمنية المشتركة الى اتصالات غير رسمية مستمرة بين الدول العربية واسرائيل، على الرغم من أو ربما بسبب انحياز ترامب ضد فلسطين. واذا لم ير أحد واشنطن مدافعا موثوقا عن أصدقائها وليست هناك حاجات أو ضرورات للوجود في الشرق الأوسط، فحينذاك سيأتي وقت المغادرة بالتأكيد. مع ذلك اذا انسحب الأميركيون فماذا سيحدث؟
 
العراق وسوريا
لا تشجع الأحداث الأخيرة في العراق وسوريا الثقة بمستقبل ما بعد أميركا، فبعد اندلاع الحرب السورية عام 2011 دعمت واشنطن وحلفاؤها الخليجيون فصائل مسلحة مختلفة، لكن بعضها ضمّ متطرفين وارهابيين مما عزز خطابات الرئيس السوري بشار الأسد بقتاله الارهاب وتفتيت المعارضة.
أما بعد غزو العراق 2003 فقد انسحبت القوات الأميركية رسميا نهاية العام 2011، غير أن الواقع يتحدث عن بقاء آلاف الجنود وأن مهمتهم الرئيسة محاربة داعش. وبعد اغتيال سليماني طالب البرلمان العراقي بانسحاب كل القوات الأميركية، لكن هناك اشارات على اعادة نظر بالقرار، وسط شكوك بقدرة السياسيين في العراق وقواته الأمنية على مواجهة داعش والحفاظ على وحدة البلاد.
 
السعودية ودول الخليج
هذه الدول هي الأكثر شعورا بصدمة أي انسحاب أميركي واسع النطاق، فالازدهار الحالي للسعودية وقطر والامارات والكويت أمنته الضمانات الأمنية الأميركية، ومثال ذلك التدخل الدولي بقيادة واشنطن لطرد غزو صدام من الكويت عام 1991.
من دون مساندة وحماية الأميركيين سيتحسن سلوك العائلة المالكة السعودية كثيرا، فلن تقع عمليات اختطاف لرؤساء وزراء لبنان مثلا، أو جرائم قتل صحفيين بارزين، ويقل احتمال المغامرات العسكرية من النمط اليمني الكارثي على المستوى الانساني. وربما تتحفز دول الخليج لاتباع مسار تصالحي مع ايران، وهو ما بدأ حدوثه خلال الشهور الأخيرة.
من جهة ثانية، قد تبحث دول الخليج عن مدافعين جدد مثل روسيا أو الصين، لكن لا يوجد رئيس أميركي يقبل بسهولة هذه الخسارة للنفوذ ولا خسارة استثمارات ومبيعات أسلحة العالم العربي المربحة، فالخروج ليس بالسهولة التي يتصورها 
ترامب.