في التَّساؤل عن تأجيل الديموقراطية

ثقافة 2020/01/25
...

 د. محمَّد حسين الرفاعي
 
[I] 
ماذا يتضمَّنُ فعلُ مصادرةِ الفعل المجتمعيِّ بواسطة البَعْديّْ؟ أي ذاك الذي يأتي من الـ[بَعْدِ] الذي يقع في المستقبل، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ]، دائماً قَبْلِيَّاً، في كل ضرب من ضروب الإنوجاد المجتمعيِّ Societal Existing؟ في المجتمعات التي يُحدَّد الوجود المجتمعيّSocietal Existance فيها اِنطلاقاً من ميتافيزيقا تؤجِّلُ كل الضروب المختلفة من الفعل المجتمعيِّ إلى المستقبل، أي تلك التي تعدنا بالأفضل في ما هو بَعْدِيٌّ، يُأجَّلُ الوجودُ إلى البَعْديِّ Posteriori، من جهة كون القَبْليُّ Priori، على أي نحو كان، لا يمكن أن يبلغ مستوى إمكان البَعْدِيِّ. ولكن ماذا يعني أن يُصبح الوجود المجتمعيِّ [مؤجَّلاً- إلى- البعديِّ]؟
[II]
إنَّ ذلك يجعل من الفعل المجتمعيِّ Societal Action، في كل الأحايين، فعلاً يوتوبيَّاً Utopian Action. إنَّ الفعل اليوتوبي، ومن جهة كونه كذلك، يتنمي إلى ضربين من ضروب الفهم. الضرب الأول من فهمه يتعلَّق بالفعل الذي تُحدد حدوده المجتمعيَّة بواسطة اليوتوبيا، والضرب الثَّاني من فهمه يتعلَّق بالفعل الذي، هو بحد ذاته، ينتقل إلى اليوتوبيا؛ أي يبقى مُؤجَّلاً، هو من حيثُ أنَّه ماهيَّتُهُ العميقة، إلى المستقبل. 
[III]
إنَّ [الدِّين- في- الديموقراطية]، والديموقراطية التي يُحدِّد الدِّينُ حدودها النظريَّة- والإجرائية، التي تؤخذ بضرب من ضروب تأويل الدِّين الذي يأخذ الدِّين من جهة كونه جملة الوعود، والشعارات، والآمال التي تنتمي إلى ميتافيزيقا تجعل الفرد كائناً مفعولاً، وليس فاعلاً، وتؤجل الفعل، فعله هو، إلى المستقبل، إنَّما هي تضع المجتمع أمام تناقض بنيوي أصليّ. فمن جهة ضرورة الفعل، ومن جهةٍ أخرى ضرورة تأجيل الفعل إلى [بَعْدَ- حينٍ].
[IV]
إنَّه لا ينبغي أنْ نقف عند هذا المستوى باِعتبار أن الديموقراطية لا تتوفَّر على إمكان أن تتضمَّنُ الدِّينَ فيها. لا؛ بل يجب أن نكشف عن مُكَوِّنات طَرَفَي التناقض هذا حتَّى نستطيع، وأن نكون قادرين، على تجاوزهما نحو ضرب من ضروب تأويل الديموقراطية على نحو بحيث تكون قد تتناسب مع التعدُّدِ المجتمعيِّ، والتنوع، والاِختلاف الذي لـ[المجتمعيِّ]، الذي يستمد ماهيته من الاِختلاف في ضروب تأويل الدِّين ذاته. 
[V]
يتضمَّنُ الطرف الأول من طَرَفَي التناقض المُكَوِّنات الآتية: I- المضمون الأول للديموقراطية باِعتبارها اِنتقالاً من عالَم المجتمعات إلى عالم الذَّوات الفاعلة مجتمعيَّاً: الفردانية،II- والمضمون الثَّاني للديموقراطية باِعتبارها تجعل من الذَّات الفاعلة متساوية مع الذَّوات المجتمعيَّة الفاعلة الأخرى، [في- كُلِّ- مَرَّةٍ]: المساواة،III- والمضمون الثَّالث للديموقراطية باِعتبارها تتطلَّب وجود وعي مجتمعيَّ يتوفَّرُ على الفعل السياسي: المشاركة السياسية، والمجتمع السياسي. 
كما يتضمَّنُ الطرف الثَّاني من التناقض، المُكَوِّنات الآتية: I- المضمون الأول للدين بوصفه مؤسسة مجتمعيَّة ضابطة لكل ضروب الفعل المجتمعيّ، والفعاليات المجتمعيَّة المختلفة، II- والمضمون الثَّاني للدين بوصفه مصدراً ميتافيزيقيَّاً للفعل، III- والمضمون الثَّالث للدين بوصفه يوتوبيا آيديولوجية. 
[VI]
متى تساءلنا على هذا النحو، ومتى أصبح الدِّين في تناقضٍ أصليٍّ مع ضروب تأويل، أو فرض الديموقراطية، على هذا النحو أو ذاك، وحينما لا تُفهم الديموقراطية إلاَّ بوصفها أداةَ فعل سياسي يُصادر الأفعال المختلفة عنه إلى [بَعْدَ- حينٍ]، وحينما يُؤخذ الفعل المجتمعيِّ ويُقاس بالاِنطلاق من معايير المؤسسة المجتمعيَّة التي يُحدِّدها الدِّين، أو ضرب من ضروب تأويله، أو فرضه، على هذا النحو أو ذاك، حينها، وحينها فقط، نصبح أمام شعارات فارغة لا تتضمَّنُ أكثر من الصراع على السلطة، والأخذ بكراسي فرض السيطرة. 
[VII]
ولكن، كيف يمكن الاِنفتاح على إمكانات بناء الدولة، ضمن تأويل للديموقراطية، من جهة، وللدين، من جهةٍ أخرى، بحيث نخرج من هذا التناقض الأصليِّ بينهما؟ 
إنَّه لا يمكن بناء الدولة بالوعظ الأخلاقي- الديني. الدولة إنَّما هي لا تقوم، ولا يمكن أن تُبنى من دون وجود رؤية فلسفية- علميَّة عميقة تتضمَّنُ: 
I- بناء علاقة اِقتصادية- وثقافية، قَبلَ أن تكون سياسية، مع منطق العالَميَّة، وفلسفتها.
II- اِختيار متخصِّصين يتميَّزون بالاِستقلالية عن المؤسسات الدينية، والأحزاب الدينية، لإدارة المؤسسات.
III- بناء فلسفة الاِستقلال الوطني اِنطلاقاً من مصالح الوطن الاِقتصادية- والثقافية- والسياسية، من قِبَلِ علماء، وفلاسفة، وأساتذة آكاديميِّين.
IV- التخلص من وهم وجود حرب مع العالم بأسره. والاِنطلاق نحو بناء السلام، والتوافق بين جميع الأطراف. وذلك لأنَّ المرءَ لا يذهب لحرب دبابة بسكينة.