لا أحد يستطيع أنْ يفصل بين الفن - بكل تفرعاته- والحياة، فالفن – واقعاً- هو مرآة عاكسة لصور الحياة بمختلف تفاصيلها وأزمنتها، والحياة بكل تشكلاتها هي تمثلٌ حقيقيٌّ للفن
روحاً وشكلاً، بيد أنَّ هناك اختلافات متعددة في طبيعة تمثل هذه الحياة، أو تمثل تفاصيلها فنياً تبعاً لمنظور فلسفي أو اجتماعي أو ثقافي أو غير ذلك من الاعتقادات أو وجهات
النظر المختلفة.
ومن هنا خرجت النظريات وتنوعت واختلفت بمسمياتها وتطبيقاتها، بيد أنها لم ولن تنفصل عن الحياة ومجرياتها، وفي أدبنا العربي بمختلف عصوره ظهرت العديد من الآراء والنظريات، أصالة أو تأثراً بثقافات الشعوب الأخرى، وقدمت تفاعلاتها مع تفاصيل الحياة وفقاً لهذا التنوع في الآراء والاعتقادات، ومهما اختلفت النظريات والآراء في مسمياتها أو مصطلحاتها أو تقنياتها، فإننا لا شك سنجد تمثلاً لها في ما بين أيدينا من نماذج أدبيَّة، وإنْ اختلفت أشكال ودرجات هذا التمثل، وإذا أخذنا مثالاً ما اصطلح عليها (بالقصيدة اليوميَّة)، بكل ما اندرج تحت هذا المصطلح من تعريفات أو تفصيلات، فلا شك أننا سنجد أنَّ الأدب العربي قديمه وحديثه زاخرٌ بالنماذج التي تتطابق مع هذه الرؤى بغض النظر عن درجة ذلك التطابق.
وإذا كان البيان الذي تقدم به مجموعة من الأدباء السبعينيين قد اجترح تعريفاً أو تقنيَّة ما، فإنَّ المصطلح يبقى أشمل وأعم من أنْ يُحصرَ تطبيقياً بنماذج متأخرة، بل إنه يمكن أنْ يمتدَّ لمسافات تاريخيَّة متعاكسة الاتجاه من دون توقف. وقد اشتغل بقصديَّة تحت ثريا هذا المصطلح العديد من الشعراء العراقيين من (الثمانينيين) وما بعدهم، مقدمين لنا نصوصاً شعريَّة باهرة. وبين هؤلاء الشعراء يقف الشاعر رياض الغريب كأحد النماذج المتميزة لمن اشتغل على ما سميَّ بالقصيدة اليوميَّة، ومجموعته (أغني حين أراك مبتهجة) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين سنة 2018 تمثل أنموذجاً لتجربته الشعريَّة وسنجد فيها تطبيقاً مثالياً للمدلول التنظيري لذلك المصطلح، فهي تملك تلك الطاقة القادرة على صنع الدهشة في نفس القارئ رغم مألوفيَّة موضوعاتها وبساطة لغتها؟ إلا أنها جديرة بتمثل مقولة الشاعر وردز ورث: (التكامل بين الحدث المألوف والمظهر الخلاب)، فنصوص رياض الغريب تمنح في كثيرٍ من الأحيان للصورة عمقاً ودلالات تخرجها من دائرة السطحيَّة والمباشرة رغم أنها تكاد تشابه وثيقة تسجيليَّة لحياة الشاعر، غير أنه يصعدُ بتلك التفاصيل اليوميَّة العفويَّة الى فضاءات الشعريَّة الخلابة مخرجاً تفاصيلها من إطار الحدث الشخصي المحض الى حدثٍ كوني متحرراً من حيزه المكاني والزماني الضيق.
يقول في نص (نزرع الحديقة بدلاً عنك بالضحكات): (لا أحب أنْ أجادل الأشياء بدلاً عنك/ هي جميعها تغار مني/ مثلاً يوم أمس/ رأيت الكرسي في المطبخ/ يحدق بكراهة لي/ والشجرة الصغيرة التي كنتُ أسقيها/ أثناء غيابك/ لم تعد تحدثني/ كلما اقتربت منها/ أدارت وجهها عني/ كل الأشياء تحبك هنا/ في بيتنا الذي يضج بنا/ بجلوسنا المبكر).
هذه التفاصيل التي تكاد تكون صورة حقيقيَّة للواقع، والتي تعرضها لنا جملٌ معبأة بصورٍ بصريَّة مألوفة، غير أنها محملة بالشعريَّة التي تجعلها تمنح القارئ فضاءً يبتعد عن المألوف قدر ما يقترب منه، فضاء ينقل الأشياء الملموسة الى صورة لأشياء محسوسة تمتلك بعداً حياتياً متحركاً وليس جمادياً ثابتاً، فصورة (الكرسي والشجرة) ليست انعكاساً لتلك الصورة الجامدة المألوفة، وإنما هي انتقالٌ بها من الحالة الثابتة الى الحالة المتحركة الحاملة للفيض الحياتي بكل تفاعلاته.
وفي نصٍ آخر يحمل عنوان (فكرتها) يقول: “رصيدك من الحنين هذه الليلة/ لكي تهمس/ أحبك/ وأنتِ/ تضعين الغطاء على الولد الصغير/ وأنت ترتبين وجهك لسهرة هذه الليلة/ وأنت تعدين لنا وجبة سريعة/ لصباح جديد/ رصيدك يكفي من الركض وراء ظلها/ من غرفة لغرفة/ تراقب أناملها وهي تمسك نعاسك/... إنَّ الأربعين لهو ولعب/ وركض في الحديقة/ من وردة لوردة/ وإنَّ البياض بياضها/ فوق الندى/ وإنَّ قبلة واحدة تكفي/ لسقي الحديقة في الشتاء”.
نلحظ أنَّ هذا السرد لتفاصيل الحياة اليوميَّة المألوفة لم يكن سرداً مركباً، بل يكاد يبدو سرداً بسيطاً، لولا تلبسه بروح الشعر التي منحته القدرة على خلق قوة الجذب، التي تمنح القارئ شعوراً خلاباً مختلفاً عما يمكن أنْ يحسه وهو يستعرض تلك التفاصيل بصورتها الواقعيَّة المألوفة، وهنا تكمن قدرة الشاعر على تحويل المشهد الصوري الجامد الى مشهد كرنفالي ساحر، تحويل ما هو منظور الى ما هو متخيل، وما هو حقيقة الى ما هو حلم، وبذلك يمكن لهذا المشهد البصري البسيط أنْ يتحول الى مشهد مركب، فاعل، محمل بالقوة الجاذبة.
وفي نص (أشرب قهوتي وأغني) يقول رياض الغريب: “حديقتي أمامي تماماً/ تشبه حدائق أخرى في هذا العالم/ صامتة بلا عصافير وحزينة/ شجرة الرمان الصغيرة/ قالت يبدو أنك لا تدري/ ضحكت/ وقلت لها أدري/ أريد أنْ أتجمع/ أريد فقط/ أنْ أتلمس بياض الحياة”.
ومن خلال ما أوردناه من نماذج، يمكن لنا أنْ نستشف أنَّ القصيدة اليوميَّة لرياض الغريب تلتزمُ ببساطة اللغة، والحرص التام على الابتعاد عن المفردة الغريبة، ولكنها تقدم صورها بجمالية عالية من دون أنْ تكلف القارئ عناء التأويل، فالخطاب لا يخرج عما هو مألوف ومتداول ومعاش في حياتنا، ولكنه يمتلك إيقاعه القادر على تحريك المستقر من الشعور، وخلق حالة من التفاعل الإيجابي بين القارئ والنص، وهو ما يسمح لهكذا نصوص
أنْ تترك أثرها الواضح زمانياً ومكانياً.