أميركا.. ما الذي يؤجّل الرحيل؟

آراء 2020/01/25
...

رزاق عداي
في العقد التسعيني من القرن الماضي، كانت أميركا تعيش حالة زهو يبلغ حدَّ الغطرسة، كونها زعيمة المعسكر الليبرالي الذي خرج منتصرا على المعسكر السوفيتي السابق بعد حرب باردة، دامت عدة عقود، فكانت الأدوات الإعلاميّة ومراكزها الفكرية تقدم نفسها مفعمة بشعور من العظمة بصفتها القطب الوحيد والقوي في العالم، حتى ان احد مفكريها- (فوكوياما) -  ادعى  ان التاريخ بلغ نهايته، واكتسب صيغته الاخيرة في الليبرالية الجديدة والتي تتطابق وتتناغم مع التطور الطبيعي للحياة
وفي وقت لاحق يكتب الفيلسوف الفرنسي المابعد حداثوي (بودريارد) يقول في مقالة له في جريدة - لوموند – «طوال  فترة ركود التسعينات،ذاتها، كان السائد هو عطالة الحوادث - بحسب تعبير الكاتب الارجنتيني، باردونيو فرناندز، واذا بتلك العطالة تنتهي، فقد علقت الحوادث اضرابها، حتى اننا جعلنا، مع عمليات نيويورك ومركز التجارة العالمي الارهابية واثرها، حيال الحدث المطلق، ام الحوادث، الحدث المحض الذي يجمع في صلبه كل الحوادث التي لم تحدث قط في اثره اهتز التاريج والقوة، لا بل اهتزت ايضا شروط
التاريخ».
ومنذ هذا التاريخ حصلت القطيعة التي كان يمكن ان يطلق الما قبله، والمابعده فيها كنقطة
 مفصليّة.
لقد أصيبت  اميركا بمسٍّ من جنون العظمة، فكان عليها ان تباشر على الفور ان تتخذ قرارات لاحداث حالة من التوازن في المجتمع الاميركي الذي تعرّض بأغلبه الى اهتزاز غير مسبوق، ربما قد يقارن بما حدث في  بيرل هاربر في
 سنة 1941.
فالاجراءات أريد لها ان تكون بمستوى الحدث، فهول الكارثة الذي امطرته سماء مشتعلة وقناعات مرعبة تكوّنت من الحادث المهول، زاد من ضراوتها كثرة الاعلانات المبهمة والمتكررة من هجمات ارهابية اخرى محكمة، فكل الاحداث كانت تنسب الى اسامة بن لادن، فبالنسبة الى افغانستان التي وجهت التهمة لها في تدبير كل تخطيط الحادث، ألغيت كل السيناريوهات القديمة لعلاج اوضاعها، فشكلت الولايات المتحدة ائتلافا ضد الارهاب، قادر على تسريع الانتقال من القانون الدولى الكلاسيكي الى نظام تشريعي جديد، فبدت ادارة بوش الابن واثقة نوعا ما، في سياسة القوة العظمى المتمركزة على نفسها  وغير
ابهة باحد.
بعد 11 ايلول بدا العالم اكثر تعقيدا، جراء هذه النزعة الاحادية، التي لا تستطيع ان تخفي نفسها، فاستبعدت مشاريع المحكمة الدولية لجرائم الحرب بمحكمة عسكرية اميركية خاصة، وكانت الحوارات في البنتاغون الاميركي تجري على مدار الساعة بشكل محموم، وكان رامسفيلد وزير الدفاع الاميركي قد حذر في احد المؤتمرات في بروكسل، قائلا:»عندما ننظر الى الدمار الذي الحقوه بالولايات المتحدة الاميركية، نتخيّل ما يمكن ان يفعلوه بنيويورك او لندن او باريس بالاسلحة الكيمياوية او البيولوجية.
وهكذا دشن العالم حقبة محاربة الارهاب، في وقت خيمت موضوعة الارهاب  كمهيمنة  راجت  كمفهوم وخطاب متضخم وبالمقابل الاجرائي، كان المتخذ يُهيّأ له على قدم وساق، اذ برز ما يسمى بالضربات الاستباقية، التي لا تأبه أبدا الى ضوابط القوانين الدولية، وبعيدة عن مقررات الامم التحدة، وفي هذا الوقت ومع ان افغانستان كانت هي المدانة بالقرائن في احداث نيويورك، برز اسم العراق وطرح بقوة في جدالات البنتاغون الى الدرجة ان البعض من صقور اليمين الاميركي فضل الضربة العسكرية الاولى الى العراق قبل افغانستان بحجة حيازة العراق على اسلحة الدمار الشامل (كيمياوية وجرثومية) يفوق ما تملكه افغانستان، ولكن الامور جرت بحجم تورط افغانستان في احداث 11 أيلول.
يبدو ان حوادث 11 ايلول في مركز التجارة العالمي قد وفر الفرصة التاريخية لاميركا القطب الواحد، لتنفيذ البرنامج الاميركي، كمسوغ وبمنطق منهج الضربة الاستباقية لاجتياح العراق لتطبيق الديمقراطية الاميركية بموجب القانون الذي صدر في الكونغرس
 سنة 1998.
لذلك ظل مفهوم الحرب على الارهاب يشكل مناخا، أجّجه ظهور تشكيلات ارهابية فاعلة ومؤثرة على مستوى الفعل، مثل القاعدة وداعش، حتى ان الاخير احتل اراضي  واسعة جدا في سوريا والعراق، كما أنه شكل حضورا قويا في منطقة الشرق الاوسط عموما والعراق
 حصرا.
رغم انحسار وتيرة الارهاب الا انه ظل يبدي فعالية ملحوظة، مشكلا تهديدا لكل العالم، لذلك بقي شعار الحرب على الارهاب قائما، ففي اللقاء البروتكولي بين الرئيس العراقي برهم صالح والرئيس الاميركي دونالد ترامب على هامش منتدى دافوس الاخير اكدا أن العلاقة التي تربط بين البلدين هو التحالف بين بلديهما في الحرب على الارهاب.
 في هذا الصدد يمكن اضافة ان ديمقراطية العراق منذ 2003 هو رهان اميركي بالدرجة الاساس جاء بالمنظور الستراتيجي لها، فهي ما زالت  تجد اخفاقها امرا غير مستحب لها، الا ان دخولها في صراع مع ايران التي ما فتئت تحرز مساحة من الحضور السياسي داخل العراق، يوجب عليها البقاء قريبة ضمن المعادلات الجديدة المتشكلة اليوم في المنطقة.
وفي غمرة القرار الصادر من البرلمان العراقي والداعي الى خروج القوات الاميركية من العراق تبدو اميركا غير مذعنة لهذا القرار، فهي قادرة على نشر جيوشها في قواعدها المنتشرة في دول الخليج وغيرها، ولكنها تفضل ان تجري حركة لها في مساحة العراق دون الخروج، فمنطقة الشرق الاوسط تتعرض الى تدخلات دولية واعادة رسم حدود، وفي زمن العولمة المتوحشة، باتت بعض بلدان منطقة مقسمة بين دول كبرى، وربما يدور في خاطر اميركا أن العراق من حصتها في هذه
المعمعة.