الـتــاريــخ الثــقــافــي للســـكــَّر

بانوراما 2020/01/26
...

أنطونيا كولبيرغ  
ترجمة: مي اسماعيل
كيف تحولت الفطائر الى كيكات، وما دخل الصيادلة بالحلوى؟ درس الباحثون تاريخ استعمال الانسان للسكر وأقاموا معرضا يستعرض ارتفاع وانهيار سمعة ذلك المكون الغذائي الموجود في أغلب الدور.. أعطِ الحلويات للأطفال.. وتناول الشوكولاتة لعلاج القلب الكسير، والمثلجات خلال استراحة الغداء.. نحب السكر كثيرا بجميع أشكاله.
وكذلك تحبه مؤسسات الصناعة الغذائية.. وسواء كان في الخبز أو غذاء الاطفال أو اللبن أو الصلصات؛ فأن السكر حاضر في كل ما نتناوله تقريبا؛ إذ يتناول الشخص الالماني في المتوسط أكثر من ثلاثين كيلوغراما من السكر الأبيض سنويا. ورغم أن الايام التي كان السكر فيها يعد من علامات الثراء والقوة قد ولّت وانقضت بالتأكيد؛ فأنه اكتسب سمعة سلبية لكونه مضرا بالصحة ومساعدا على زيادة
 الوزن.
في البدء كانت الفاكهة
كما هو الحال مع أشياء كثيرة؛ كان يجب أن يصل السكر الى قارة اوروبا قبل أن ينمو الطلب عليه من سكانها؛ ولكن كيف كان السكان يُشبعون حبهم للمذاق الحلو قبل أن يُحضِر التجار السكر اليهم؟ قبل نحو ألفي سنة كانت الفاكهة المصدر الوحيد للمذاق الحلو؛ إذ بدأ الرومان بزراعتها في ألمانيا، ومن هناك انتشرت تنويعات واسعة منها (من التفاح والكمثرى والخوخ والعنب
 ونحوها). 
يشرح "كارل بويس" (وهو عالم آثار اشرف على تنظيم معرض: "مواد سكرية" بمدينة نويس قرب دوسيلدورف) أن الناس عمدوا لاستخلاص عصير الفواكه وحفظه (بعد تحويله الى هريس أو هلام)، قائلا: "كانت تلك وسيلة تحفظ المواد لأمد طويل، كما يمكن استخدام الناتج لتحلية الطعام". أما عمليات استخراج السكر من القصب فقد بدأت أوائل القرون الوسطى، بعدما وصلت من الشرق الاوسط الى أوروبا؛ لكنها كانت عموما باهظة الثمن بحيث لم يستطع عامة الناس الحصول على ذلك المنتوج.. وحتى النبلاء ما كانوا يستخدمون السكر الا في المناسبات الخاصة. تقول الرواية أن اسم السكاكر الشهيرة "بون بون- bonbon" ظهر في أعياد تلك الفترة الزمنية، وبعدما تناولها أطفال ملوك فرنسا حينها؛ يقال أنهم هتفوا بحماس: "بون.. بون" وهي كلمة تعني "جيد" بالفرنسية.. ومن هنا جاءت التسمية. 
بدأ البريطانيون خلال القرن الثامن عشر بزراعة قصب السكر في مستعمراتهم؛ فأنتجوا السكر بكميات كبيرة. يرى "بويس" أن فرنسا شنت الحروب على بريطانيا بقيادة الامبراطور نابليون بونابرت.. "لمنعها من توسيع تجارتها"؛ ولذا وضع ما يسمى بــ" الحصار القاري" حدا لصادرات السكر البريطانية. 
وصل الشمندر السكري أخيرا الى ألمانيا بحدود منتصف القرن التاسع عشر (بعد انتهاء الحرب وموت نابليون بسنوات طوال).. وبعدها بات السكر متوافرا للجميع؛ والأهم من ذلك انه بات بمقدور الجميع شراءه.  
 
دواء أم حلوى؟
اليوم بات استهلاك كميات كبيرة من السكر يعد تعاطيا "للسموم البيضاء"، ويرتبط بالعديد من الامراض. وهذا امر يثير التعجب إذا علمنا أن السكر موجود بأعلى مستوياته منذ العصور القديمة إذ لا يتوقع أحد وجوده في الصيدليات! منذ القرن الأول الميلادي ساد الاعتقاد أن للسكر قدرة على شفاء الامراض، وباتت العقاقير الطبية تدعى (منذ القرن الحادي عشر) "حلويات الجيب"، وهي تحوي نحو تسعين بالمئة من السكر. 
وبعد نحو خمسة قرون أصبح استخدام السكر ضمن العقاقير الصيدلانية غالبا ليكون مادة حافظة وليخفي الطعم اللاذع والمر ومصدرا للطاقة، وبيعت العقاقير حلوة المذاق بصورة أفضل من غيرها. وفي نهاية المطاف، ولتعزيز المبيعات؛ حذف الصيادلة ببساطة المكونات الفعالة دوائيا وباعوا المحتوى السكري فقط.. وهكذا ولدت صناعة
 الحلويات. 
بعدما غادرت الحلويات الصيدليات؛ لم يطل الامر حتى اتسع نطاقها وتعددت أصنافها. أصبح الكيك "Cake" إحدى الوصفات التي نالت شعبية وانتشارا كبيرين ؛ إذ جعلت تركيبة القاعدة الاسفنجية الهشة والقشدة الحلوة والكثير من الكرز وصفة كيكة "الغابة السوداء-Black Forest" واحدة من الأكثر طلبا وانتشارا في ألمانيا. ورغم أن تلك الكيكة احتفلت بعيد ميلادها المئة سنة 2015؛ فأن أصولها التاريخية تعود فعليا الى القرن السادس عشر. 
لكن كيكات ذلك الزمن لم تكن تشبه (لا من قريب ولا من بعيد) مفهومنا وتصورنا الحالي "للغابة السوداء"؛ إذ كانت قبل بضع مئات من السنين شيئا مختلفا تماما.. كانت الكيكة حينها تتكون من عجينة (يصنعها الخباز أو صانع الحلوى)، تُحشى بالمادة السكرية الطيبة بعد النضج؛ وهو ما يصفه "بويس" بأنه.. "تنويع حلو المذاق للفطيرة
 الحالية". يجرب دارسو تاريخ السكر والحلويات اليوم وصفات لعمل الكيك مر عليها نحو مئتي سنة، وتنفيذها بمساعدة صانعي حلويات معاصرين. وغالبا ما تكون النتيجة أشبه بنوع بسيط من الكيك مملوء بالمربى أو الفاكهة ومغطى بالسكر المطحون. يصف "بويس" نتائج تلك التجارب بأنها .. جافة نوعا ما، ويمضي قائلا: "لم يكن بوسع الخبازين في القرن التاسع عشر تبريد المنتجات؛ لذا لم يكن بوسعهم استخدام القشدة". وهذا يعني ان كيكة الغابة السوداء لم تصل لشكلها الحالي الا بعد توافر تقنيات الحفاظ على برودة
 القشدة.
فقد السكر منذ وقت طويل سمعته الجيدة بكونه سلعة مترفة ورمزا للثراء والارستقراطية؛ فهو اليوم متوافر بكثرة ومدعاة لإثارة مشكلات صحية؛ ولسوء الحظ يدرجه البعض في خانة "السموم البيضاء" التي يجب على الانسان الحذر من الافراط
 بتناولها.. 
 
موقع "دويتشي فيله" الألماني