الأمكنة المنفعلة

ثقافة 2020/01/26
...

ياسين النصير

 هذه مقدمة لفصل من كتاب أشتغل عليه، رأيت أن أطرحها للقراء لعلَّ قارئا يضيء بعض ما خفي عليّ، وعندئذ سيشاركني في وعي هذا الإنفعال الذي لا أعرف أسبابه وكيفية حدوثه، فنحن نادرا ما نستضيء بالعلم التجريبي كي نتحدث عن أفعال الطبيعة. ولكننا لا نتوفر دائما على العلم، فنندهش حينما تواجهنا الطبيعة بأفعال لم تتنبأ بها مجساتنا الشعبية والعلمية. في القرية كان أحد الناس حينما يوجه نظره إلى السماء لفترة تزيد على ربع ساعة يقول لنا ستمطر السماء بعد ساعة أو ساعتين وستكون مصحوبة بعاصفة وعلينا أن ننتبه لبيوتنا القصبية إذ إنها لن تقف بوجه الرياح. وأحيانا يتنبأ بأشياء تحدث بعد يومين أو ثلاثة، كان الرجل قصابا وله باع في السرقة والسطو، ومع لسانه الشديد الوضوح ثمة أكاذيب كثيرة عن غزواته النساءَ وغيرهن، كنا نصدقه ونكذبه ولكن بعض ما يقوله يتجسد حقيقة على الأرض. 
تثور الطبيعة ببراكينها، وتموج البحار بموجاتها الصاخبة، وتمطر السماء بمطرها الغزير، وتشتعل الغابات بنيران مجهولة، ويغطي الليل ضوء الطبيعة، ويضيء النهار أمداءَها وفيافيها، كل هذه الأفعال هي من أفعال الطبيعة، يمكن القول من انفعالاتها لا من أفعالها، فبعض أفعال الطبيعة كما تقول الخيمياء، كالفصول والمد والجزر وتعاقب الضوء والظلام وخلق الأحياء وغيرها هي أفعال ليست منفعلة بقدر ما هي أفعال فاعلة، لارتباطها بنمو الحياة وديمومتها، لكن البحر الهائج ليس فعلا خيرا ولا البراكين والزلازل ولا الصواعق والحرائق فالطبيعة تفعل وتنفعل، وعلينا نحن أبناء الكونيات أن نفسر ما يعنينا ونجعله خيرا أو شرا والعاقبة دائما في اختلاط الأسئلة والأجوبة في دماغ الإنسان عندما لا يجد وضوحا في الاثنين. ترتبط القرى بالأجوبة الناقصة والمبهمة، ولا تسأل بل تنتظر رجل الدين كي يحل لغز الغوامض، ودائما لا يضع رجل الدين حلولا للمشكلات بقدر ما يقول مطمئنا النص المقدر كائن، وإرادة الله هي الفاعلة وعلينا أن نصلي كي ندفع الشرور.
يراقب فاوست في مسرحية غوته أمواج البحر وهي تتكسر بعد هيجانها على الشاطئ، ليقول كم من القوى الطبيعية هادرة تأتي وتذهب دون تستغل؟ وكان غوته يفكر بتحويل انفعالات الطبيعة إلى أفعال حديثة للبشرية.
في الكتابة، ونحن أبناؤها المنفعلين بما تحتويه، علينا أن نركن لأفعال الطبيعة حتى من دون أن نمارس العلم معها، فللطبيعة طفولة عبثية مارستها لإغاضة البشر أو لزراعة الأمل، وإلّا كيف تكون الفصول منتجة ومخربة لما انتجته في فصولها لو لم يكن طفل الطبيعة عابثا بمقدرات كونية الحياة، العلم إذ يقترب من أفعال الطبيعة ليقسرها، وليس لخلق بديل لها، من هنا يكون الأدب ممارسة طفولية كذلك مع ذلك الطفل العابث في المشاعر والصور والتكوينات، لذلك يلجأ الأدب إلى أن تكون نصوصه نصوص الحيل والإبهام والمحتملات كي يقف على الكيفية التي يشتغل فيها طفل الطبيعة مع مخلاتنا. فالثقافة وليدة هذه المتناقضات، وليست الثقافة طريقا معبدا للوصول إلى ما تطرحه انفعالات الطبيعة. لا تقابل انفعالات الطبيعة وأمكنتها إلا بانفعالات العلم والشعر، كلاهما يتحول إلى مجس يغور في طيات تلك الأفعال المبهمة ليصيرها كونية عبر الرياضيات واللغة 
الشعرية.