ماذا حدث لحركة الستر الصفراء التي هزت شوارع فرنسا؟

بانوراما 2020/01/26
...

جيمس ماكولي ترجمة: شيماء ميران
 

بعد مرور أكثر من سنة لحركة الستر الصفراء، نشبت اعمال عنف متفرقة واطلاقا للغازات المسيّلة للدموع، لكن تدفق المتظاهرين كان اقل، بينما عمَّ الهدوء النسبي في المحافظات التي تعد مثل الروح للحركة.  ينظر الى تلك الحركة بوصفها انتفاضة عفوية غير منظمة ضد التباين الاجتماعي، اندلعت فجأة في فرنسا واثارت دهشة المراقبين في جميع انحاء العالم، إذ اشتبك محتجون مع الشرطة، بعد ان عزم منظمو الحركة بإعادة تأجيج التظاهرات التي شهدتها البلاد العام الماضي والتي تضاءلت في اشهرها الاخيرة، فتزايد تأييد الحركة وسط باريس.

تعد هتافات اصحاب الستر الصفراء الآن هو جزء من حسابات البلاد السياسية، التي اظهرت التباين الاجتماعي نتيجة لسياسة إيمانويل ماكرون المحلية المركزية، سواء اعترف بذلك ام لا.
انطلقت الحركة، التي اتخذت اسمها من السترات المميزة للسائقين الفرنسيين الملزمين بحملها في سيارتهم لارتدائها عند طوارئ طريق، كرد على عزم الحكومة رفع اسعار الوقود. 
 
احتجاجات عنيفة
كان جُلُّ غضب المحتجين موجه لماكرون، إذ اتهموه بالغطرسة وغير المبالاة بالصعوبات التي يواجهها البسطاء، وطالبوا باستقالته حتى وان كان قد اُنتخب باغلبية ساحقة.
قدم ماكرون استجابة فعلية: وهي الحوار، فقاد جولة “نقاش كبير” استغرقت شهرين، تحملَّ فيها ساعات من المهاجمات الشخصية في دور البلدية وقاعات المدارس عبر البلاد. وكانت نتيجة هذه المواجهات المؤلمة احيانا والاحتجاجات، تذلُل ماكرون على الاقل بما يكفي لاستعادة شعبيته.
لقد وقعت معظم الاضطرابات عند تقاطع بلاس ديتالي جنوب شرق باريس، إذ حطمت مجموعة من المحتجين واجهات المحال وأوقدوا النار في حاويات النفايات وبعض السيارات، فردَّت عليهم الشرطة باطلاق الغاز المسيّل للدموع.
كما اوضح مدير شرطة باريس ديدييه لاليمنت للصحفيين: “حتى لو كانت الصور مثيرة في بلاس ديتالي، تبقى الحقيقة ان بقية مناطق باريس هادئة”. واعلنت الشرطة اعتقال ما لا يقل عن 105 أشخاص. وكانت الشرطة قد ااتهمت في ذروة احتجاجات العام الماضي بالتمادي باطلاق الرصاص المطاطي على المتظاهرين، بعد اغلاق المتظاهرين الجادات الكبرى للعاصمة، وتحطيم واجهات المحال وتخريب الاثار الوطنية، مثل قوس النصر، ما دفع ماكرون لعقد مؤتمر صحفي استثنائي اعلن فيه عددا من الاجراءات التصالحية: تخفيض ضرائب الطبقة الوسطى، القيام بحملة على مخططات التهرب الضريبي وإعادة الاستثمار في الادارة المحلية عبر البلاد، والتخلي عن ضرائب استهلاك الوقود التي اثارت الكثير من الغضب. وقال لمجلة التايم: “ الستر الصفراء كانت مفيدة جدا بالنسبة لي بطريقة معينة، لانها ذكرتني من يجب ان
اكون”.
 
اجندة ماكرون
برغم من عرقلة اصحاب الستر الصفراء لبعض من اجندة ماكرون، لكنهم لم يردعوه، فاستمر بالسعي لإصلاح قطاعات دولة الرفاهية والسخاء المشهورة لفرنسا، واكمل من حيث توقف اسلافه، ما يُنذر بالمزيد من الاشتباكات.
ان تعديلات منظومة التقاعد الفرنسي تعد جوهر خطط ماكرون، وضمت مقترحات رئيسة، مثل رفع السن التقاعدية من 62 الى 64، وتسهيل 42 خطة معاشية مختلفة بنظام واحد قائم على النقاط، ما يعني تهيؤ  بعض اصحاب الرواتب التقاعدية السخية للخسارة، مثل ضباط الشرطة وموظفي المواصلات العامة.
لقد ولدّت هذه المقترحات بالفعل احتجاجات، فعزمت اتحادات موظفي المواصلات – ومنها ميترو باريس، وجباة سكة الحديد الوطنية، والطاقم الارضي للمطارات - البدء بتظاهرة كبيرة مطلع كانون الاول الماضي.
كما تظاهر المئات من عمال المستشفيات بشكل منفصل في باريس، مستنكرين تخفيضات الموازنة التي أكدوا انها تكبح قدراتهم لتقديم رعاية جيدة خصوصا صالات الطوارئ.
وذكرت صحيفة لوموند في احدى طبعاتها: “ يستعد الشارع مرة اخرى لاخذ ثأره”. وشددت الصحيفة على ان حركة الستر الصفراء هي اكثر من مقاومة متوقعة لتغيير سياسي غير مسبوق: “انها فضحت المأزق الاجتماعي بسبب نقص الخدمات العامة في جزء كبير من البلاد، والاستياء الصامت بين بعض الفرنسيين الذين يشعرون بإهمال اللعبة الديمقراطية لهم”.
ووعد ماكرون فورا باتخاذ هذا الغضب على محمل الجد بعد احتجاج كادر المستشفى: “لقد اصغيت لصوت غضبكم على ظروف العمل التي تصبح مستحيلة احيانا – تخفيض الرواتب، عمل متواصل وصعوبات مادية”. لكن حين عبّرت حكومة ماكرون استعدادها لتقديم جزء يسير من مقترحاتها الاصلاحية، لم تُظهرعلامات كبيرة للتراجع التام.
 
حالات استثنائية
كان طلب بريسيليا لودوسكي، الموظفة بمجال مواد التجميل من ضواحي باريس، على الانترنت عن ضريبة إنبعاث الكاربون السبب بإطلاق الحركة العام الماضي، واوضحت في حديث صحفي ان ماكرون لم يأخذ الدوافع وراء الحركة بجدية تامة، حتى وان قدم بعض التنازلات، وقالت: “ليس لدي انطباع بانه سيغير الامور”، مشيرة الى ان ماكرون رفض اللقاء باصحاب الستر الصفراء الذين يمثلون الارادة الوطنية الشعبية وهذا واجب عليه كما تعتقد، فقالت: “لم يعترف ماكرون بالحركة كممثل للشعب”.
واظهر استطلاع للرأي اجرته صحيفة لو فيغارو ان 69 بالمئة من الشعب الفرنسي مستمرون بإيجاد “التبرير” لحركة الستر الصفراء.
وواجهت الحركة انتقادات لتمثيلها مصالح شريحة واحدة فقط من المجتمع الفرنسي، رغم ان لودوسكي سوداء البشرة ومعظم المتظاهرين بيض من الطبقة المتوسطة والكادحة. وكافحت الحركة لاكتساب الشعبية في ضواحي المدن الكبيرة المكتظة بالمهاجرين، التي لا تزال افقر مناطق البلاد.  
كما حدثت احتكاكات تعصبية عرضية بين صفوف المحتجين، كان احدها تعرُض المفكر ألان فينكيلكروت، الاذاعي والاسم المشهور في فرنسا، لافتراءات مناهضة للسامية قرب شقته بباريس، رغم انه من قلائل المفكرين الداعمين للحركة منذ البداية.
لقد رفضت لودوسكي الحادثة واعتبرتها حالة استثنائية: “حصلت امور جميلة ايضا في جميع ارجاء البلاد، مثل مساندة الناس بعضهم بعضا وإحضار الطعام، لكنها لم تلفت الانظار”. يصف المحللون السياسيون الحركة  بعد مرور عام بالرمزية الى حد كبير، وكان اثرها قليلا على الساحة الانتخابية التي ظل حزب ماكرون الوسطي وفصيل اليمين المتطرف لمارين لوبان مسيطرين عليها.
وبعد ان كان اداء مرشحي الستر الصفراء ضعيفا في انتخابات البرلمان الاوروبي خلال ايار الماضي، يناقش القليل منهم توقعات مشاركتهم في انتخابات البلدية بفرنسا بحلول اذار المقبل. واصرت لودوسكي ان قوة الحركة مستمرة برفضها المشاركة في السياسية السائدة. يقول المحلل السيساسي وكبير مستطلعي الرأي العام في وكالات الاقتراع الفرنسية جيروم فوركيه: “اظهرت حركة الستر الصفراء التشظي داخل المجتمع الفرنسي بطريقة رمزية، ويمكننا القول انها قدمت أنموذجا من عودة الصراع الطبقي في فرنسا:- وكان هذا المحيط تجاه العاصمة”.