علي حسن الفواز
هل صار البحث عن رئيس للوزراء لغزا سياسيا، أم هو تعبير عن أزمة حقيقية في إدارة السياسية العراقية؟ وهل عجزت القوى السياسية عن التفكير العقلاني بأهمية وجود رئيس يمكن أن يقبله الشارع السياسي والشارع الشعبي؟
أحسب أنّ هذه الأسئلة تحولت الى رهان وطني وتاريخي على نجاح العملية السياسية، وعلى مستقبلها، إذ تتطلب الديمقراطية إطارا يؤطّر فعالياتها، عبر وجود دستورٍ ومؤسسات وقوانين تكفل عملية إدارة السياسة وحماية الديمقراطية ذاتها، وتُنظّم عملية تداول السلطة دون تعقيدات، ودون صراعات، ودون تجاوز على التوقيتات التي حددها الدستور لهذه العملية.
منذ مدة والشارع السياسي يعيش تداعيات الفراغ الدستوري، مثلما يعيش الشارع الشعبي تظاهرات واحتجاجات تُعبّر عن رفضها سوءَ الإدارة والفساد، وتردي الواقع السياسي والاقتصادي والخدماتي، وهو ما يعني تواصل الأزمة، وتراكم مشكلاتها، وعلى مستويات تجاوزت ما هو محلي وإقليمي لتكون جزءا من مشكلة دولية وحقوقية، ومن تعقيدات يُمكن أن تُلقي بظلالها على مسار العملية السياسية، وعلى خياراتها المستقبلية، فالملف النووي الإيراني، وتداعيات اغتيال الجنرال سليماني، وأبي مهدي المهندس، ومعطيات الواقع الأمني في الخليج، وتحديات الإرهاب الداعشي، ووجود القواعد العسكرية للأميركان ولقوات التحالف في العراق، تحولت كلها الى مجالات مفتوحة، وقابلة للتفجّر في أيّة لحظة، لا سيّما أنّ التوافقات السياسية العراقية تعيش هي الأخرى انقساما عميقا، ومواقف مضطربة تبدّت أكثر وضوحا من خلال استقالة حكومة تصريف الأعمال، والعجز عن اختيار رئيس جديد
للوزراء.
لسنا في قارة أخرى
الواقع الأمني في الشرق الأوسط جعل من العراق بؤرة أمنية، مثلما هو بؤرة سياسية محفوفة بالأزمات، وهذا التوصيف والترابط يفترضان أن تكون مواجهة تلك الأزمات بمستوى تحدياتها واستحقاقاتها، لا أن تجعل الـ" بعض" يُفكّر بحلول غرائبية، ويتوهم وكأننا في قارّة أخرى، وأنّ الصراعات الإقليمية والدولية بعيدة عن حدودنا وعن مصالحنا وعن علاقاتنا مع دول العالم.
البحث عن توافق سياسي لاختيار حكومة عراقية جديدة، ليس بعيدا عن اختيار منظور جديد لإدارة السياسة، ولتجاوز تاريخ طويل من الصراعات والعقد، وبالاتجاه الذي يعزز هوية الدولة العراقية ويحمي مشروعها الوطني، واستقلالها وسيادتها، ويُبعدها عن رعب المحاور الصراعية، وعن مناطق الفخاخ التي تتوزع خريطة المنطقة، بدءا من الملف الإيراني والملف اليمني والملف السوري وصولا الى الملف الليبي والملف اللبناني.
تضخم لعبة الانتظار السياسي العراقي يكشف عن تشوهات عميقة في الواقع السياسي، وعن ضعف بنيوي عميق في مؤسسات الدولة، فضلا عن تضخم العسكرة والأدلجة خارج تلك المؤسسات، وهو ما يجعلها تنعكس على المواقف والسياسات، التي تُضعِف حتما من السيادة ومن إدارة السياسة، ومن مواجهة التحديات الكبرى، ومنها تحديات المحاور، وتحديات الأمن الإقليمي والدولي، وتحديات المصالح وغيرها.
إعادة النظر بواقعية السياسة، وبحسابات المصالح يمكن أن تجعل من السياسيين العراقيين أكثر مهنية في النظر الى ما يجري، والى إعادة التعاطي مع الشارع الشعبي المحتج والرافض بعقلانية مَنْ يريد أن يتفاعل مع شعبه، ومع استحقاقات المرحلة التي تقتضي رؤى أكثر وضوحا، وأكثر فاعلية، على مستوى بناء الدولة ومؤسساتها، أو على مستوى تجاوز عقدة تأهيل الخطاب الديمقراطي وانضاج معطياته وممارسته في الواقع، فضلا عمّا يرتبط بالمستوى الأخلاقي، الذي يعني مواجهة الفساد والرثاثة السياسية، التي تحولت الى ظواهر مُعطّلة للتنمية ولإشباع الحاجات الوطنية التي خرج الجمهور العراقي بحثا عنها، والمطالبة بوجودها كحقوق وطنية وشرعية وديمقراطية.
الرئيس ورهان الإنقاذ
أهمية وجود التوافق السياسي لاختيار رئيس للوزراء يعني التوافق على أفق للمستقبل، وبصرف النظر عن أنّ هذا الرئيس سيكون مؤقتا، وعابرا لمرحلة الأزمات، وله دوره في التمهيد لانتخابات مبكرة، إلّا أن واقعية الاختيار تعني التحرر من عقدة "الاختلاف" والتصارع، والتوهم، مثلما تعني ضرورتها في إيجاد علاقة تفاعلية مع الشارع العراقي المضطرب، الذي يفترض وعيا متعاليا، وايثارا في التخلي عن المصالح الحزبية والطائفية، لأن ما يجري في الشارع يتطلب إنقاذا سريعا، ومعالجات واقعية بعيدا عن حسابات الضعف والقوة، وهو ما يعني الحاجة الى رجل حكومة له القدرة على إدارة التوافق، وعقلنته، وله الدراية والمهنية في مواجهة ركام هائل من الأزمات والصراعات والمشكلات التي تركها الآخرون مفتوحة مثل جرح وطني.
توصيف الرئيس الحكومي بالمُنقذ هو توصيف إجرائي، وممارسة تصبّ في صالح إنقاذ الديمقراطية العراقية من محنتها، ومن تعاطي الجماعات السياسية المشوش معها، لا سيّما ما يتعلق بالخيارات والمواقف والاجراءات ذات الرهان الجماعوي، التي بدت واضحة عبر قرار مجلس النواب العراقي بإخراج القوات الأجنبية - الأميركية بشكل خاص - من العراق، وفي جلسة شهدت مقاطعة واضحة من قبل الأحزاب الكردية، وكثير من النواب " السُنّة" وهو ما أثار جدلا كبيرا حول فاعلية هذا القرار، وموقف المعارضين منه، الذي سيعني بروز مشكلات سياسية جديدة، وربما ستفتح الباب على صراعات أكثر تعقيدا، لا سيّما مع إقليم كردستان، حيث سيكون عدم الالتزام بهذا القرار والامتناع عن تطبيقه.
إن اختيار "الرئيس المنقذ" هو اختيار العقل، والمسؤولية، واعتماد الواقعية في النظر الى ما يجري في الشارع، وما يجري في السياسة، وباتجاه وعي حقائق هذا الذي يجري، وعلى وفق مصلحة الدولة ومصلحة الشعب، ومصلحة الحقيقة التي تتطلب جهودا كبيرة وتضحيات أكبر.