مجموعة «غيمة عطر» بوصفها متوالية سرديَّة

ثقافة 2020/01/28
...

فاضل ثامر
 
 
تثير مجموعة القاص والروائي حميد الربيعي الأخيرة «غيمة عطر» الصادرة في دمشق 2019 (دار نينوى) إشكاليَّة كبيرة تتعلق بتوصيف الطبيعة الإجناسيَّة للمجموعة بسبب وضع عنوان فرعي يشير إلى مثل هذا التجنيس هو (متوالية قصصيَّة). ولم نعتد في السابق كثيراً على اعتماد مصطلح (متوالية قصصيَّة) في الكتابات النقديَّة العربيَّة، ولكنَّ الموضوع شغل النقاد في الولايات المتحدة كثيراً مؤخراً وصدرت الكثير من الدراسات والكتابات والكتب التي تنظّر لهذا المفهوم الجديد.
وربما يتعين علينا أنْ نعترف بأنَّ الناقدين العراقيين المعروفين د. ناديَّة هناوي، ود.ثائر العذاري، هما أول من كشف عن طبيعة هذا المفهوم في النقد العراقي، في سلسلة من المقالات والدراسات والسجالات الصحفيَّة العميقة، والمتشنجة أحياناً، التي حاولت أنْ تؤصل لهذا المصطلح وتكشف عن جذوره وضرورته وجدواه.
وقد اعتدنا في السابق على توظيف مصطلح (المتوالية السرديَّة) (narrative sequence) أو المتوالية القصصيَّة (أو متوالية القصة القصيرة (short story sequence) بمحدوديَّة داخل نص سردي واحد من خلال الإحالة إلى سلسلة الوحدات السرديَّة المتمفصلة داخل نصٍ معين. أما التوظيف الحديث فيذهب إلى أبعد من ذلك من خلال القول إلى أنَّ بعض المجموعات القصصيَّة تكشف عن وحدة داخليَّة تجعل النصوص مترابطة ومتراسلة، وكأنها وضعت لتحقق هدفاً إبداعياً مشتركاً. فقد تكشف مثل هذه المجموعات عن عناصر مشتركة، مكانيَّة مثل مجموعة جيمس جويس (أهل دبلن) Dubliners أو زمانيَّة، مثل (في زمننا) In our time لأرنست همنغواي، أو متمحورة حول تجربة شخصيَّة وإنسانيَّة مثل مجموعة قصص فرجينيا وولف المتمحورة حول شخصيَّة السيدة دالاوي. وقد تكون ثمة تماثلات في الرؤيا السرديَّة وفي الموقف من الواقع أو توظيف الضمائر السرديَّة وغيرها. ومثل هذه العناصر المشتركة تجعل مجموعة قصصيَّة معنيَّة مشبعة بجوٍ سردي مشترك وموحد، وكأنها نصٌ روائيٌّ مقطعيٌّ متماسك، ومن خلال العلاقات الداخليَّة التي تربط هذه المتواليات السرديَّة المختلفة، الموزعة أصلاً بين وحدات قصصيَّة مستقلة.
 
سرد عربي
وقد أغرى هذا البحث نقاداً آخرين للحديث عن المتوالية السرديَّة. وعلى مستوى السرد العربي يذهب د.ثائر العذاري إلى القول بأنَّ القاص المصري أدور الخراط هو أول قاص عربي دوّن على غلاف مجموعته القصصيَّة (أمواج الليالي) الصادرة عام 1991 مصطلح (المتوالية القصصيَّة) ويتحمس د.العذاري إلى عد المتوالية السرديَّة أو القصصيَّة جنساً أدبياً مستقلاً، انسجاماً مع الكثير من الدراسات الحديثة التي نشرت في الولايات المتحدة. (العذاري،د.ثائر: ظاهرة شكليَّة أم تنويع ثيماتي؟/ جريدة الصباح، بغداد، العدد7588).
لكنَّ د. ناديَّة هناوي، من جانبها، ترفضُ فكرة الذهاب إلى تجنيس المتوالية السرديَّة، وتقديم أسانيدها المهمة في هذا المجال، وترى أنَّ اضطراب المصطلح وعدم استقراره دفعها إلى رفض القبول بمصطلحات مثل حلقة القصة القصيرة، ودورة القصة القصيرة، والقصة القصيرة ككتاب مفتوح، وترى لا جدوى في هذا الخلط بين ما هو تقانة واشتغال مخصوص بالسرد، وبين ما هو تجنيس مؤطر بالنظريَّة. (هناوي، د.ناديَّة التجنيس في القصة القصيرة، موقع الناقد العراقي في 13/5/2019).
وفي حدود اطلاعي، فإنَّ أول دراسة نظريَّة أجنبيَّة ظهرت عن الموضوع في العربيَّة كانت دراسة الناقد (روبرت لوشر) التي نشرت في كتاب (القصة، الروايَّة، المؤلف) وهو من تأليف مجموعة باحثين وترجمة د. خيري دومة، (ط1 1997، دار شرقيات القاهرة، ص 89-102) وبعد أنْ يعرف هذا الناقد بهذا المصطلح ويورد المسميات النقديَّة المقترحة له آنذاك يذهب إلى القول إنَّ المتوالية السرديَّة تجعل القصة القصيرة كتاباً مفتوحاً.
ولا أريد لهذا الموضوع النقدي المثير والطازج أنْ يسرقنا عن مهمة فحص مجموعة (غيمة عطر) بوصفها (متوالية قصصيَّة) كما أشر مؤلفها ذلك على غلاف المجموعة، ولكي لا نسرف في التنظير، سأرجئ قليلاً فحص ذلك، ريثما ندخل بسلاسة إلى هذا العالم القصصي الذي قدمه لنا القاص حميد الربيعي الذي بدأ مشواره القصصي المبكر كاتباً للقصة القصيرة وللرواية في آنٍ واحد. 
تضم هذه المجموعة القصصيَّة اثنتي عشرة قصة قصيرة تبدو للوهلة الأولى متباعدة، وتكاد تفتقد إلى عناصر التماسك والتوحيد التي يفترض عادة توافرها في كل متوالية سرديَّة، لكنَّ القارئ المتمعن سوف يكتشف لاحقاً الخيوط السريَّة الرؤيويَّة، والسرديَّة التي توحدها. ويومئ عنوان المجموعة القصصيَّة ذاته (غيمة عطر) إلى المتاهة السرديَّة التي سيجد القارئ نفسه داخلها، خاصة إذا ما احتكم إلى العتبة النصيَّة الوحيدة والموقعة باسم (السارد) والتي تشير إلى دلالة العنوان وتشظيه وانتشاره، في شكل عنوانات متلاحقة لقصص المجموعة ذاتها وسنقرأ معاً هذه العتبة الملغزة:- (بيوم آخر لا تستتر ولا تكتمل غيمة عطر في متاهة، متاهة ملا قنبر، إلا عند رواس وسواحل وستظهر في صباح اليوم العاشر ويراها الآخرون حيث يجتمعون) (ص5) 
سيكتشف القارئ أنَّ مفردات هذه العتبة النصيَّة قد تحولت إلى عنوانات فرعيَّة لهذه المجموعة القصصيَّة، لكنها من الجانب الآخر تشير إلى حركة داخليَّة أفقيَّة وزمكانيَّة (كرونوتوبيَّة بتعبير باختين) لدلالة غيمة العطر هذه والتي تهيمن في النهاية على الجو القصصي لتطرد العفن والقبح إلى الأبد.
وفي لعبة سرديَّة ذكيَّة يجمع القاص جميع أبطال قصصه في القصة الأخيرة (حيث يجتمعون) لتحقيق هذا الهدف، أي انتصار غيمة العطر، والتخلص إلى الأبد من مصادر العفن والقبح والكراهيَّة، من خلال دفن الجنازتين اللتين مضى عليهما أربعة عشر قرناً. ولأنَّ القارئ يجهل سر هاتين الجثتين المتعفنتين، فإنَّ ذلك يدفع القارئ، وكذا الناقد، إلى التأويل، وافتراض دلالة محددة سيميائيَّة أو رؤيويَّة ربما ترتبط بالتاريخ الإسلامي واستمرار الصراع المذهبي والطائفي طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً، مما خلق جثة رمزيَّة متفسخة ومتعفنة ينبغي دفنها إلى الأبد. وربما تذكرنا هذه الجثة بقصة (وردة لأيميلي) للروائي الأميركي وليم فوكنر.
كما أنَّ هذه النهاية تعيدنا إلى قصة (متاهة ملا قنبر) وهي القصة السابعة، بل وتستكملها على المستويين الحسي والرمزي السردي، إذ نجد شيخين، رجل وامرأة، يرقدان في سريرهما منذ ألف وأربعمئة سنة، وقد تحولا إلى هيكلين عظميين وموطنين لهر وجرذ، فضلاً عن الدود الذي نخر عظامهما. (ص62).
تنطوي مجموعة (غيمة عطر) على تنويعات أسلوبيَّة مختلفة ومتباينة. فهنالك أساليب رمزيَّة وأخرى واقعيَّة أو تعبيريَّة أو سرياليَّة، وبعضها ينتمي إلى الواقعيَّة السحريَّة والفنتازيَّة. كما اعتمد المؤلف على تناصات مثيولوجيَّة وتراثيَّة وإحالات على أعمال ومؤلفات أدبيَّة أو تاريخيَّة، وعلى حركة زمنيَّة واسعة قد تمتد إلى الماضي، لكنها تؤكد انتماءها إلى الحاضر وتحديداً إلى بداية الألفيَّة الثالثة. كما أنَّ حركة الكاميرا تدور مكانياً، 
في الغالب ضمن أجواء عراقيَّة، وربما 
بغداديَّة، كما أنَّ بعضها يذهب إلى مدينة البصرة. وثمة إلى جانب ذلك تنويعات متباينة في توظيف الضمائر السرديَّة. فهنالك حضورٌ لأنا السارد، الذي يروي الحدث، كما أنَّ الكثير من القصص تروى عبر ضمير الغائب، وهو في الغالب لا يعود إلى المؤلف بل إلى المؤلف الضمني (implied auther)، أو إلى شخصيات قصصيَّة محددة من خلال استغوار أعماقها بمنولوجات داخليَّة مبأرة أو عبر تيار الوعي . وفي بعض القصص نجد تداخلاً في الأصوات القصصيَّة، وبشكلٍ خاص في القصة الختاميَّة (حيث يجتمعون). ومع أنَّ المؤلف قلما يتدخل في السرد ويترك لشخصياته الإنابة عنه، لكنه كان يطل أحياناً، بوصفه معتل الصحة، وإنَّ لقاءً عاطفياً معيناً سيمنحه الشفاء، كما هي الحال في قصة (عطر)، حيث نجد البطل يحلم بلقاء الأنثى ذات العطر الخاص والتي ستجعله (يكسب حياة جديدة إنْ انفرطت حبات الرمان في صدرها) (ص36)، بل إنَّ العرافة العجوز جعلته يهفو للقائها، وعند ذاك (عاجلاً سيأتي الشفاء من سرطان الرئة) (ص37) ويتكرر هذا الهاجس أيضاً في قصة (غيمة)، عندما يتكرر قول عرافة ما (ثمة فتاة ستمنحك حياة جديدة ما أنْ تلامس نهدها حيث يزول المرض عنك) (ص46).
 
شخصية البطل
كما نجد أحياناً وعياً بقصديَّة الكتابة السرديَّة، مما يعمق عناصر الميتاسرد في هذه المجموعة. ففي قصة (لا تكتمل) ثمة إشارات كثيرة إلى أنَّ شخصيَّة البطل ورقيَّة وليست حقيقيَّة وأنَّ البطلة (شمعة) (لا تدرك أنَّ الرجل خرج من عالم الأخيلة وأنه مصنوع من الورق). (ص28) وثمة إشارة إلى أنَّ البطل (في دفة كتاب كان ينام) (ص28)، إشارة الى كتاب “الفهرست” لابن النديم وأنه (ندم كثيراً على خروجه من دفتي الكتاب، بعد المطاردة الرهيبة التي عاشها ابن النديم والتي جعلته يتخفى في أحياء المدينة). (ص29).
وقد وجدنا ثمة ثيمة تتكرر على امتداد المجموعة:- رجل عاشق يطارد عطر امرأة تمنحه حياة جديدة، أو امرأة تطارد رجلاً يمنحها الحب. فالحب يظل ثيمة مركزيَّة بوصفه الطريق لقهر الفساد والقبح 
والزيف. ثمة، في الغالب، تراسلٌ خفيٌّ بين قصص المجموعة. بطل القصة الأولى يعمل صباغاً للأحذية ورث صندوقه الرمزي عن سلسلة أجداده ويتحول هذا البطل إلى صباغ لواجهات الدور والمحال. وتحفل هذه القصة الأخيرة بتناصات تاريخيَّة وميثيولوجيَّة، إذ يعلن البطل أنَّ اسمه سبهان بن الأكثم، وهو آخر سلالة المخصيين، وقد ورث عن أسرته قدرته على صنع الجمال وسط ضوضاء المدن المتناحرة، كما حاول من جهة أخرى أنْ يختلق له تاريخاً ملفقاً، إذ (استل بعضها من التاريخ وأضاف إليها بعض الرتوش). (ص18)، وقد مدَّ تاريخ أسرته إلى 
المتوكل الذي كان يحب سماع إحدى أغاني 
جده.
 
أجواء غرائبية
ويولد أيوب بطل قصة (لا تكتمل) وسط أجواء غرائبيَّة ومثيولوجيَّة، ويجد نفسه مُطارداً من قبل البنت (شمعة) التي أصرَّتْ على أنْ تقتحم عالمه الورقي غير المكتمل الذي خلقه على عجالة ابن النديم في (الفهرست) من دون أنْ يزوده بذاكرة للمدينة، فتعيده ثانية إلى الواقع الحسي، بما فيه من مدنس ومقدس، لإعادة الاعتبار لما لم تعرفه عن هذا الرجل «والبدء مع هذا العشيق من جديد في مسار حياتي بعيداً عن الكتب العتيقة، وكان عليها إكمال بقيَّة الملامح التي نسيها ابن النديم حين أخرجه منذ ألف عام بدون ذاكرة». (ص30)
ويتمثل هذا المنحى الفنطازي والغرائبي في قصة (بال - سيكام) التي تذكرنا أجواؤها برواية (مئة عام من العزلة) لماركيز، حيث ولع الأسرة بالاختراعات الجديدة، في سلسلة من الحكايات الفنطازيَّة والشطاريَّة معاً، منها مثلاً طريقة تهريب الابن (سيكا) لأبيه السجين لدى الأنكليز، عن طريق ابتلاعه مثل لقمة انزلقت بسهولة حيث مكث لمدة عقدين قبل أنْ يخرج إلى الحياة. (ص91) وتقترب من هذا الجو أجواء قصة (رواس) التي تزاوج بين المثيولوجيا والتاريخ من خلال خلق مخيم افتراضي للنساء، أطلق عليه اسم (مخيم سنجار)، حيث نجد امرأة من نساء المخيم هي (رواس) في انتظار رجلٍ يأتي من المجهول. وتشير البطلة إلى أنها من نساء (النمارق) وأنها علقت رايتها فوق (خيمة النمارق) بانتظار الحبيب الغائب. (ص65) والقصة محملة برموز وإحالات وتناصات تاريخيَّة ومثيولوجيَّة عديدة يمكن الإشارة إلى بعضها تجنباً للإطالة، فهي بالتأكيد تشير إلى نوع من النساء اللاتي مارسن البغاء المقدس قبيل الإسلام، وأحياناً البغاء الاعتيادي من خلال رفع رايات حمر خاصة بهن، لكنَّ بطلة القصة (رواس) ترفض أنْ تُعامل مثل البغايا (لم نكن بغايا ذات يوم، بل هو نذر ارتضيناه في خدمة السادن، كانت الابتهالات غايتنا ثم تحولنا إلى منشدات وتالياً تعلمنا الرقص من أجل أمنا الكبيرة). (ص66)
وتصر البطلة أنها ابنة الطارق، ورفضت أنْ يمسها أحدٌ في انتظار الغائب، ولكنها في لحظة حلميَّة تعويضيَّة تشعر بأنَّ (المرتجى كان يصهل في جسدها منذ هنيهات، وأنه جاء بغير حساب) (ص69) وتظل تحلم بأنْ تهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب، في تناص واضح مع النص القرآني المعروف.
هكذا تحيلنا هذا القصة إلى رموزٍ تاريخيَّة ومثيولوجيَّة قديمة، فقد كانت النسوة في الجاهليَّة يحرضن الرجال على القتال، خاصة في معركة ذي قار، كما كانت هنالك مجموعة من النسوة المعروفات بـ(الحفاريات) 
اللائي يقمن عادةً بمثل هذه الوظيفة التحريضيَّة.
وقد سبق وأنْ أشار المستشرق (لامنس) إلى وجود نوعٍ من البغايا المقدسات في الجاهليَّة يقمن بالتحريض على الحرب ويسميهن البعض ببنات طارق، أو (بنات نائلة). ومعروفة تاريخيَّة الاهزوجة التي قالتها هند بنت عتبة وهي تحث القريشيين على مقاتلة المسلمين والتي مطلعها (نحن بنات طارق نمشي على النمارق).
 
تكامل القص
وتتكامل قصتا (عطر) و(غيمة) إلى حدٍ كبير أسلوبياً وثيمياً وزمنياً، إذ نجد بطل (عطر) يحلم بأنثى ذات عطر خاص تمنحه الحب والشفاء من مرضه، ويتحقق حلمه في نهاية القصة عندما تنقر فتاة العطر على نافذته نغماً محبباً (ص38)، وتواصل قصة (غيمة) عالم القصة السابقة، إذ نجد امرأة قال لها ابن العربي ذات يوم (الحروف ذوات) وأدركت أنَّ مستقبلها مرسومٌ بهذه العبارة. ويبدو أنها كانت تبحث عن تجسيد كلمات محيي الدين بن العربي من خلال ذات بشريَّة ظلت تبحث عنها، وساعدتها كلمات المرأة العجوز للوصول إليها، بعد أنْ علمت بأنَّ ثمة فتى في كراج الأمانة يسأل عنها. (ص43) لذا فقد بثت عطرها في كل زاوية وفي الساحة العامة للحي (شكلت من عطرها خيمة وصارت هي عمودها الوسطي) (ص45) لم يكن العطر بالنسبة لها مجرد امتياز أنثوي بل كان المرادف لجو الخراب، وفي النهاية تهرول فتاة العطر نحو فتاها الموعود بوصفه ذاتاً (لم تقو على البقاء بعيداً هرولت نحوه مسرعة). (ص46). شخصيا ًوجدت أصداءً قويَّة لثيمة رواية (العطر) للروائي الألماني باتريك زوسكيند في الاشتغال على مركزيَّة تأثير شعريَّة العطر في العمل الأدبي.
 
قناع الكاتب
وفي قصة (المتاهة) يتقمص البطل قناع الكاتب الراحل محمود عبد الوهاب الذي يجد نفسه أسير متاهة حالماً داخل غرفته، بعد أنْ بدأ يعاني من فقدان ذاكرته حتى خيل إليه أنه ربما (تلبست الفكرة ذاكرة إنسان آخر)، (ص50) ونكتشف أنَّ البطل كان ضحيَّة الحرب (حاولت التذكر فالمشهد أمامي الآن سبق وأنْ رأيته عندما سقطت قذيفة من الحرب الأولى وخسفت السطح وأخرى استقرت في حضني). (ص54) وتكتسب القصة بعداً فنطازياً عندما يتحدث بطل القصة عن عودته إلى البيت:- (أنا محمد عبد الوهاب، لا أتذكر الحكاية جيداً، بيد أني كل حين عندما أخرج من المقبرة أعود إلى البيت، أنتظر من يرويها لي كاملة، كما حدثت في بداية الألفيَّة الثالثة). (ص54).
قد يجد قارئ ما تشظياً في ثيمات وأجواء الكثير من قصص مجموعة حميد الربيعي (غيمة عطر)، لكنَّ القارئ بعين فاحصة سرعان ما يتوصل إلى شبكة الرموز والعلاقات التي تجمع هذه الوحدات السرديَّة المتباعدة. وربما تتمثل قوة الشد والربط في القصة الأخيرة (حيث يجتمعون) إلى حدٍ ما في امتدادها التاريخي والسردي كما في قصة (متاهة ملا قنبر) حيث يجمع القاص أبطال جميع قصصه ليشاركوا في الجنازة الرسميَّة للجثث المتعفنة التي ظلت في مكانها لمدة أربعة عشر قرناً وحان الوقت للتخلص منها وإلى الأبد. ومن حق القارئ أنْ يؤول هذه النهاية الرمزيَّة المفتوحة على طريقته الخاصة، وقد يذهب بعيداً إلى التاريخ وإلى الصراع المذهبي في الإسلام، أو قد يلتقي بالمدى القريب الذي توقف عنده وليم فوكنر في قصته (وردة من أجل اميلي) حيث كانت ترقد جثة متفسخة في سرير ما لعقود عدة واكتشفت بعد وفاة السيدة اميلي صاحبة البيت، الذي لم تغادره طيلة سنوات قبيل رحيلها الأخير، إذ نلاحظ أيضاً مشاركة جميع أبناء المدينة في تشييع السيدة (اميلي)، تماماً مثل 
تشييع أبطال قصص المجموعة للجثتين المتعفنتين. مجموعة (غيمة عطر) إضافة ذكيَّة وغنيَّة لعطاء القاص والروائي الحداثي حميد الربيعي ولفن القصة القصيرة الذي يواجه حالياً تحدياً كبيراً بسبب طغيان الفن الروائي، كما أنها تضع على طاولة البحث والنقاش إشكاليَّة مفهوم (الوحدات السرديَّة) أو القصصيَّة، وفي ما إذا كانت هذه الوحدات تشكل (جنساً) أدبياً جديداً، وهو 
موضوعٌ واسعٌ وخصبٌ قد نعودُ إليه في وقتٍ آخر.