برغماتية ترامب

آراء 2020/01/29
...

رزاق عداي
 
ترامب هو الرئيس الأميركي الأكثر براغماتية بين رؤساء أميركا في الأحقاب الأخيرة، ليس من خلال سياساته الضريبيّة مع منافسته الأولى في العالم، الصين، بل حتى مع بلدان أوروبا الحليف التاريخي لأميركا قديما وحديثا، فترامب الشَّرِه لا تفوته المطالبة عن أيّة معاملة تجارية أو أيّة خدمة أخرى كبيرة كانت أو صغيرة.
وسلوكه البراغماتي المتطرف هذا جعله متناقضا في بعض الأحيان ومتقاطعا مع بديهيات اقتصاد العالم الذي خيّمت عليه العولمة كضرورة حتمية للاقتصاد الرأسمالي المتزايد النشاط، فحتى الصين التي تعدّ نفسها الدولة الاشتراكية الكبيرة الوحيدة الباقية، التي كانت وما زالت منضوية تحت لواء النظرية الماركسية، باتت توظف ممكنات الإطار العام للعولمة لتحقيق أكبر إضافة اقتصادية ممكنة لها، فهي تدعم بقوة شركاتها التابعة للدولة، والأخرى ذات الطابع المختلط، للاستثمار خارج حدود الصين، مستفيدة من المميزات الإيجابية للعولمة في توفير فرص عمل كثيرة للصينيين في كثير من بلدان العالم.أحد آراء ترامب التي تواجه النقد الشديد من قطاع الشركات العملاقة ومن بعض خبراء الاقتصاد، التى أعلن عنها في حملته الانتخابية ربما بوحي من شعبوية حادة لديه، هي أنّه يعزو تفاقم البطالة في السنوات الماضية إلى نزوع الشركات  الكبرى نحو الاستثمار في بلدان خارج الأرض الأميركية، مستفيدة من الأيدي العاملة الرخيصة وأسواق تلك البلدان في تحقيق أكبر ربح ممكن، لذلك سعى إلى توفير مغريات عديدة  للإبقاء على عملها داخل أميركا في حدود الاستثمار الداخلي، ناسيا، حسب مراقبين، أن البطالة ليست في أميركا فحسب، بل في كل بلدان العالم التكنولوجي المتقدم ناجمة عن تطور هيكلي للنظام الرأسمالي طرأ على بنية قوى الإنتاج الصناعية، حتمته أتمتات وفرها العلم، وهذه بدورها أحدثت ثورة كبيرة أثرت في تقليص الأيدي العاملة في أنشطة الاقتصادات الرأسمالية.
هذه الحقائق ليست غائبة عن تفكير متخذي القرار الأميركي الميدانيين، لذلك اتّخذ ترامب مسارات أخرى، منها السياسة الضريبية المتشددة لسدّ هذه الثغرة.ربما هذه واحدة من الآليات التي سعى ترامب بحمية تشبه السعار الذي راح يؤثر في الاقتصاد العالمي، فمن ضمن ستراتيجيات أميركا بعيدة المدى، عندما تنوي تدمير بلد ما  وتفكيكه، بعيدا عن المواجهة العسكرية، هي الحرب الاقتصادية بأثرها المضمون، وباحتفاظ تفوق أميركي ملموس في الاتفاقيات التجارية مثلما يجري اليوم مع الصين، وللدول الأوربية من خلال الضغوط العسكرية، أو ابتزاز الدول النفطية الغنية بحجة الحماية والأمن. 
ولأميركا تجربة ناجزة، وبنتيجة باهرة، مع التحاد السوفيتي السابق، فمؤسس ومصمم ستراتيجية الحرب الباردة الفعلي (جون فوستر دالاس)، وزير خارجيتها الأسبق في مطلع الخمسينيات، الذي دعا إلى استدراج الاتحاد السوفيتي الى أكبر إنفاق عسكري، يضاف إليه منافذ أخرى اجتماعية وخدمية متنوعة، بالإضافة الى ما  تقدمه الدولة من مساعدات إلى فصائل حركات التحرر.وهذا ما أكّده غورباتشوف، الرئيس السوفيتي الأخير، في كتابه (البيرستوريكا)، فهذا وجد خزينة دولة خاوية، لا تلبي الحاجة أمام مشروع حرب النجوم الأميركي الذي تقدم به الرئيس الأميركي الأسبق ريغان مثل بالون اختبار قوة الاتحاد السوفيتي الاقتصادية آنذاك، والقصة المتبقية لانزلاق الدولة السوفيتية السابقة 
معروفة.
ما تمارسه أميركا اليوم إزاء إيران يجري وفقا لخطة ستراتيجية بعيدة المدى لخنق اقتصادها تدريجيا عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية الشديدة، وتأثير هذه الاجراءات بات يترك تأثيره الواضح على عموم الحياة الإيرانية عموما، باعتراف الرئيس الإيراني روحاني قبل عدة أيام عندما اعترف في ندوة له بأن إيران خسرت أكثر من مئتي مليار دولار نتيجة العقوبات الأميركية
، و الذي وفر قوة عقابية  بالغة لأميركا هو هيمنة الدولار الأميركي بوصفه عملة قيادية عالمية.أمّا بخصوص العراق فما نعتقده، هو أنّ أميركا عندما كانت محتلةً العراق مباشرة، أو في السنوات اللاحقة بعد مغادرتها، لم نلمس، خلال ستة عشر عاما، ما يؤشر أو يعزز فكرة أن أميركا تريد للعراق دولة قوية، لا أمنيا ولا اقتصاديا، ومبعث اعتقادي هو أن أميركا على دراية تامّة بالفساد المستشري في مفاصل الدولة، ولكنها لم تُقدم على أي إجراء من شأنه مكافحة هذه العاهة الكبيرة، كما أنها لم تسهم في أي مشروع كبير ومحوري يساعد على النهوض بالاقتصاد العراقي وتخليصه من واقعه الأحادي الريعي.
كل الملفات الأميركية المتعلقة بالعراق محتفظ بها لغرض المساومة بها ضد القوى العراقية التي لا تتناغم معها للضغط عليها، معنى هذا أن أميركا تفضل حالة عدم الاستقرار في العراق، وان تتفاهم في صيغة ما مع إيران في أيّة مخرجات في أيّة انتخابات كما جرى في 2010 ،2014 ،2018.
نستنج بسهولة، أن أميركا لا تتوافق مع الشعارات التي ترفعها التظاهرات اليوم، التي تدعو الى تعزيز الهوية العراقية، وتكريس الروح الوطنية، باعتبار أن عراقا قويا سوف لا يبقي على أيّ تدخل أجنبي، وقد لا يوفر فرصة براغماتية لأميركا أو لغيرها.