(100) ألف برميل نفط في اليوم الواحد، لا تشكل نسبة كبيرة بالمقارنة مع حجم التصدير العراقي من النفط، الذي يناهز الأربعة ملايين برميل يوميا. ولكن مقابل هذه الـ (100) ألف برميل، سيشهد العراق انعطافة مهمة في واقعه التنموي المتهالك.
وفق هذا المبدأ، وقّع العراق مع الصين واحدة من أهم الاتفاقيات في تاريخ البلدين، هذه الاتفاقية، التي أُثير حولها الكثير من اللغط والجدل، فهناك مَن أيّدها بقوة، عادّاً إيّاها بوابة النهوض التنموي المنشود، في ما انتقدها آخرون، معتبرين أنّها تمثل رهنا لنفط البلد لدولة قد لا تفي بمتطلبات الاتفاقية، وبالتالي نخسر نفطنا، ويبقى الواقع كما هو.
ولكن في واقع الحال أن الاتفاقية المشتركة بين العراق والصين، القائمة على أساس (النفط مقابل الاستثمار)، ستمثل، فعلا، تغييرا حقيقيا في الواقع العراقي، ومَن يعتقد أنها تمثل رهنا للنفط والاقتصاد العراقيينِ، للصين ، فكلامه غير سليم، لكون الاتفاقية لا تتضمن شروطاً جزائية، وهي من صنف اتفاقيات الصداقة، وإن حدث أيّ خلاف بين البلدين فبإمكانهما اللجوء إلى هيآت التحكيم الدولية لفض النزاع، أو الخلاف، كما أن الفوائد المفروضة من الصين قليلة جدا ، ولا تشكل أي ضغط أو إرهاق على الاقتصاد العراقي. مقابل ذلك، فإن الصين تشتري ما يزيد على المليون برميل من النفط العراقي، وهناك عدد غير قليل من شركاتها التي تعاقد معها العراق في القطاع النفطي، وممّا يبعث على التطمين، أنّ الدراسات المكمنية للنفط تؤكد أنّ العراق يمتلك أعلى احتياطي نفطي في العالم، ما يجعله بمأمن من أي محاولات للاستحواذ على نفطه، لا سيّما، أنّ عمر الاتفاقية مع الصين هو 20 عاما، قابلة للتجديد، في حال وجد البلدان ضرورة لذلك. وبهدف زيادة مستوى التطمين، والتعامل بثقة بين البلدين، فقد جرى الاتفاق ضمن بنود الاتفاقية، على إنشاء صندوق عراقي - صيني، يُعنى بشؤون الإعمار بإشراف الحكومة العراقية وشركة استشارية ضامنة، يتم اختيارها من قبل البنك المركزي العراقي من بين أفضل خمس شركات عالمية كبرى متخصصة في مجال الاستشارات .
أمّا آليات تنفيذ الاتفاقية التي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ قبل نهاية العام المنصرم 2019، فتبدأ بإيداع إيرادات (100) ألف برميل يوميا من النفط العراقي الذي يتم بيعه إلى الصين بموجب هذه الاتفاقية، لدى صندوق الإعمار المشترك، في ما يبلغ السقف الائتماني للمصارف الصينية الى الصندوق المذكور نحو 10 مليارات دولار، تكون فوائدها مغطاة أو مدعومة من قبل حكومة
الصين.
وتمضي الأمور على هذا الأساس، فإن نجحت آليات العمل لبنود الاتفاقية، وجرى تنفيذ الحزمة الأولى من المشاريع المتفق عليها بين الطرفين، وكان العراق مستعدا للمضي في التعاون، فبإمكانه هنا زيادة حجم الاستثمارات، عبر رفع معدلات كميات النفط المباعة إلى الصين إلى نحو (300) ألف برميل يوميا، أي بزيادة الكمية بنسبة 200 %، مقابل قيام الجانب الصيني برفع سقف الاقتراض الى (30) مليار دولار.
ولنا أن نتصور حجم ومستوى التغيير الذي ستشهده قطاعات التنمية في مختلف مفاصلها، إذا ما علمنا أن المشاريع التي ينبغي الشروع بتنفيذها ضمن الحزمة الأولى من الاتفاقية تشمل المطارات، وفي مقدمتها مطار بغداد الدولي، الذي وصفه أحد رجال الأعمال الكوريين، بأنه وجه سيّئ لمدينة في غاية الجمال (بغداد)، إذ تعد المطارات المتطورة أحد المرتكزات المهمة للاستثمار في البلدان، ثم تأتي باقي المشاريع الحيوية، ومنها بناء المدارس في عموم المحافظات، إذ ما زال العراق يعاني من خلل كبير في هذا القطاع، إذ تقدر الحاجة إلى ما لا يقل عن 10 آلاف مدرسة.
وكذلك، فإن العراق بحاجة إلى شبكة طرق، وسكك حديد حديثة ومتطورة، وإحياء مشروع القناة الجافة، التي تربط شرق أوروبا بغربها عبر العراق، وما يمثله هذا المشروع من أهمية استثنائية
للبلد.
كما ذهبت الاتفاقية إلى أبعد من ذلك، فهي تتضمن مشاريع مهمة لمعالجة التلوث في نهري دجلة والفرات، وكذلك شط العرب، وستكون لهذا المشروع آثار إيجابية مهمة لا سيّما في ما يتعلق بتحسين نوعية المياه، وبالتالي زيادة رقعة المساحات المزروعة، وكذلك حماية وتحسين البيئة التي تواجه مشاكل
كثيرة.
أمّا في قطاع السكن، فمشكلة العراق معلومة للجميع؛ لدينا أزمة سكن حادة، إذ تقدر الفجوة بأكثر من 3 ملايين وحدة سكن، ولذلك تضمنت الاتفاقية بناء مجمعات سكنية في جميع المحافظات، وبواقع 100 الف وحدة سكنية في كل محافظة، فضلا عن بناء المستشفيات على مستوى الأقضية التي لديها حاجة في هذا الجانب، وبمعدل مستشفى واحد في القضاء بواقع 100 سرير، كما تتضمن الاتفاقية إنشاء مشاريع في مجال الطاقة والبنى التحتية، وأيّة مشاريع أخرى يطلبها
العراق .
ولذلك، نقول: إنّ هذه الاتفاقية إيجابية جدا بالنسبة للعراق، من دون إغفال الإشارة إلى ما ستحققه من مكاسب سياسية واقتصادية بالنسبة للصين، وهذا من حقها، فالعالم اليوم يقوم على أساس صراع الاضداد، ومدى إمكانية أي محور أو بلد، الاستحواذ على أكبر مساحة اقتصادية في هذا العالم المتصارع.
ولكننا نحن في العراق، علينا أن نستثمر هذه الاتفاقية بأقصى درجات الاستثمار، وتحقيق ما عجزنا عن تحقيقة طوال عقود من الزمن، لأن الصين لديها إمكانات كبيرة وهائلة، لا سيّما في قطاع التكنولوجيا المتطورة، كما أنّ الصينيين، ومن خلال التعامل معهم، أثبتوا جديتهم في العمل والتنفيذ، ومن شأن الدخول الصيني القوي في المشهد التنموي العراقي، تشجيع دول وأطراف أخرى للتنافس معهم، وهذا يعطي العراق مساحة أرحب في اختيار الشركات العالمية الأكثر رصانة، كما أنّه سيمثل ضغطا على الصين، ممّا يدفعها إلى المزيد من الجدية في العمل والتنفيذ .
إن الشروع بتنفيذ الاتفاقية المشتركة، من خلال دوران عجلة العمل في المشاريع المتفق عليها، سيسهم، وبنحو سريع، في توفير ملايين فرص العمل للشباب، كما أن كل قطاعات العمل المنظم وغير المنظم ستتحرك بقوة، ما يعني أننا سنكون أمام مشهد تنموي جديد مختلف كليا عمّا كانت عليه الحال. ولكن كل ذلك يتطلب جدية أكبر من قبل الأطراف المعنية في العراق، فالمطلوب أن يسود الاستقرار الأمني والسياسي في ربوع البلد، وأن نتجاوز خلافاتنا السياسية، وعلى جميع المحافظات والوزارات تقديم مشاريعها، ليتم توحيدها والتوقيع عليها مع الجانب الصيني، من أجل الشروع بتنفيذها فالوقت لا
ينتظر .