في الأسطورة و اللغة

ثقافة شعبية 2020/02/01
...

جاسم عاصي

 
 
إن محاولات الإنسان منذ البدء في التعـبير عن دواخله وحاجاته الوجودية، والاهتمامبما يدور حوله؛ هو استجابة مباشرة بين الذات والآخر . ونعني بالآخر آنذاك الواقع المعـاش بكل تشكيلاته الطبيعـية. وما عـلى الذات في هذا، إلا ّ أن تتخذ موقفاً .بمعـنى تقيم صلة تبادلية معـه لأسباب عدة لعـل أهمها درء المخاطر وتحقيق القيمة للوجود .
هذه الاستجابة عـموما أنتجت فعـالية ما، إذ غـدت أهمية إحداث التوازن  من بعـد تطور المجتمع، وتغيير أساليب الإنتاج والعـمل امرا ضروريا، مما حدا بالإنسان إلى ابتكار الشعـِيرات والطقوس باختلاف نشاطاتها وطبيعـتها . 
نستطيع من خلال النظر إليها واستقرائها أن نجمع عـلى بروز نوع من البنى الفكرية البسيطة، لأنها   أولا ً؛عـبـّرت عن موقفها الذاتي، وثانيا ً؛ شكلت بنية أسطورية عـلى وفق عـلاقاتها وركائزها. ومن ثم غدت المصد إزاء إشكالات الواقع ؛ لأن الأسطورة هنا هـي نظرة عـامة للإنسان استطاع أن يتخذها معـبرا ً للإدلاء بوجهات نظـره، لاسيّما بعـد تطور فعـالياتها وتنوعـها وشموليتها، مـن خلال نظرتها للأشياء والكون . فالإنسان تمثـّل مرحلة عـاشتها شعـوب العـالم. وما اتخاذه منصة الأسطورة مثل أساسية ألاّ كونها نوعاً مـن حالة التأمل في نظام الكون وفي خلق الإنسان. وهي بالنتيجة الوسيلة التي حاول الإنسان القديم عـبرها أن يضفي عـلى تجربته طابعـا ً فكرياً. 
من هنا يمكن القول أن الفكر هو نوع من تفعـيل العـقل إزاء الأشياء من أجل التوصل إلى معـرفتها؛ فإنه عِـبـر الأسطورة  تمثل أسلوبا ً رمزيا ً للتعـبير عـن هذا الفكر،فالرمز يرتبط باللغة، والأسطورة في هذا المجال هي نظام لغـوي ـ 
رمزي يتسع كثيرا ً لاحتواء معـالم المجال الحضاري الحيوي عـبر تنوعـاته واختلافاته، ليشير إلى ما هو تأريخي وواقعـي؛ لأن الأسطورة قادرة على احتضان عـناصر المرحلة وخصائصها. 
لذا ومـن منطلق عـلاقة الأسطورة باللغـة؛ نرى أنها ترشح فكرا ًومعـاني دالة، ومعـبّرة عـن طبيعـة المرحلة والواقع الذي نشأت في حاضنته. فهي المجال الحيوي الذي يؤسس حراكا ً عـلى صعـيدي الفعـالية الطقسية والفعـالية 
الفكرية. 
وهــذا يسحبنا إلى المجال أو الحراك الحضاري الذي هو مجموع النشاطات الفكرية المعـَبّر عـنها بشتى الطرق والأساليب، وإلى مختلف الاتجاهات التي نطلق عـليها بني حضارية تُسهم الأسطورة في اعتبارها تأريخا ً ولغة تنشّط فعـالية المغـايرة، وتنتج حضارة؛ هي جوهر التأريخ 
الإنساني. 
ففي انعدام الحضارة ينعـدم التأريخ. فالأساطير وعـلى رأي (كريمر) تكتسب أهميتها من دراسة التأريخ الفكري الإنساني، فهي أول محاولة في تأريخ الفكر الإنساني بما وضعـته من مفاهيم فلسفية تهدف إلى إنقاذ الإنسان من متاهات الجهل والبدائية  في معرفة أسرار الطبيعـة 
وظواهرها .
 لقد حاول ( شتراوس )  وهو بصدد دراسة الأسطورة أن ينطلق في تفسير نشأتها، وفي إبراز مغـزاها وهدفه في تحليلها بوصفها نصا ً لغـويا ً. 
وقد انتهى من خلال أبحاثه إلى أن الفكر البدائي لا يمثل مرحلة من مراحل التطور، بل يمثل منطق الفكر البشري في كل زمان ومكان. فهي ـ أي الأسطورة ـ أسهمت في تغـيير نمط الحياة الإنسانية باعتبارها تمثل نظاما ً فكريا ً، وحراكا ً تاريخيا ً، لها تأثيرها، ولها فعـلها المـُغـّير. 
فقد استطاعت بوصفها نصا ً من تحويل الحياة الدينية / السياسية / الاجتماعية، إلى منظومات رمزية لها مدلولات واقعـية، والأسطورة بهذا الصدد اعتـُبرت الوسيلة الرمزية التي يعـبـّر من خلالها الإنسان عـن واقعه وحاجاته، لذا فهي وسيلة تـُناظر اللغـة؛ لأنها تنطوي عـلى سرد ووصف. ومن ثم ترشح بنى فكرية، نستطيع أن نصفها بوسيلة اتصال بشري، وأداة تغـيير وصياغـة لمعـالم الكون والحياة ؛ لأنها في الأساس ترتبط بحراك تفسير الظواهر واحتوائها لغـويا ً. وكما أكد الباحث ( ناجح المعـموري)(1)عـلى أن هذا ينسحب عـلى تكرار الأساطير عـبر العـصور مع إجراء تغـيرات بسيطة ـ لأنها محمولات تنطوي عـلى فكر وشرائع وقوانين ـ، وفي حضارات مختلفة ومتباعـدة 
جغـرافيا ً. 
فالأسطورة إذاً حاملة لخلفية تاريخية، بمعـنى تكون شخوصها الرئيسة من الآلهة أو أنصاف الآلهة، وأن يكون بطلها إلها ً أو نصف إله. فالعـلاقة التماثلية بين الأسطورة والتأريخ تُسفر عن وظيفة مركزية لها، بوصفها تمثل خطابا ً تاريخيا ً أمينا ً، ولأنها تعـبـّر بشكل مباشر عـن الواقع . 
فالتأريخ والواقع يكمنان فيها، لكنهما بالتقادم  يتحولان معـا ً إلى زمن أسطوري تحمله الذاكرة والذات الإنسانية،على حد قول سارتر.إن الدراسات المتعـلقة بالأساطير ودورها المباشر في تفسير الظواهر في الكون،انبثقت مـن الصيرورة التي ارتكزت عـليها هذه الفعالية الطقسية  الفكرية 
والرمزية. 
ولعـل السومريين ـ عـلى حد قول كريمر ـ كانوا قد أطالوا التأمل في الطبيعـة، وفكـّروا في منشأ الكون وكيفية بنائه وتدبره.(2)وهناك دلائل تشير إلى أن مفكري السومريين ومعـلميهم كانوا فـي الألف الثالث قبل الميلاد قد وضعـوا قواعـد لكونيات اللاهوت، وإن تلك القواعـد أصبحت من بعـدهم أسساً للقواعـد والشرائع والقوانين التي عـُرفت في منطقة الشرق 
الأوسط .
 إلاّ أن مفكري السومريين لم يكتبوا معـارفهم القيّمة في حقول الفلسفة واللاهوت والكون عـلى هيئة قـواعد وشرائع، وإنما كانت مدونة ضمن أعـمالهم الأدبية التي خلـّفوها، كالمثيولوجيا والملاحم والحكايات .من هذا نرى أن حضارة وادي الرافدين وضعـت الشرائع والقوانين المعـروفةـ وهي نتاج بنى 
فكرية ـ 
والتي جسدتها الملاحم والنصوص المتعـلقة بالكون وتنظيمه، والوجود وتشكيل عـلاقاته، والسيطرة على الفعـاليات البشرية،ثم تأسيس ما يمكنّها من تشذيبها ووضعـها عـلى وفق مسار يضمن للإنسان وجوده. فالقوانين والتشريعـات في نظرهم هي السبل التي تنظـّم الحياة.  والشرائع عـدّها  مؤرخو الحضارات،أ ُولى وأقدم محاولات الإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة، عبر العصور، لتنظيم المجتمعـات 
المتحضرة.  
 
الهوامش /
1ــ الأسطورة وعـلم الأساطير / ترجمة عـبد الناصر محمد نوري عـبد القادر .
2ــ الأسطورة / د. نبيلة إبراهيم / الموسوعـة الصغـيرة ـ بغـداد / العـدد 54في 1979
3ــ الأسطورة والواقع / ناجح المعـموري/ مجلة الأقلام العـراقية / العـددالخامس
2002