الزراعة المستقبلية

بانوراما 2020/02/01
...

نازيا بروين 
ترجمة: انيس الصفار
في مصنع السكر القديم، وفي الضوء الوردي الذي تبثه مصابيح "اللد"، تنمو معاً في صفوف جميلة منسّقة نباتات البوك تشوي (الملفوف الصيني) والبقدونس والطرخون والريحان، بمحاذاة عشرات الأنواع من الخس. ينزل الماء الذي اضيفت اليه العناصر الغذائية قطرة بعد قطرة الى الأبراج الخضر ليبقي النباتات الغضة اليانعة رطبة ويمدها بالغذاء.
هذه هي المزرعة العمودية الداخلية باستخدام التقنيات المتقدمة التي انشئت في أعماق سرداب مخزن المعدات التابع لشركة "تيت ولايل" قديماً فتحول الى ما صار يسمى اليوم "مزرعة أوربان في جامعة ليفربول التكنولوجية لعلوم الحياة".
كانت البداية عندما ضم باحثان أكاديميان كل ما بحوزتهما من موارد معاً ثم جندا لمشروعهما طلبة الدكتوراه  و الماجستير وانطلقوا معاً يزرعون نباتات المائدة في أبراج، وهو مفهوم تتصاعد شعبيته يعني زراعة نباتات الخضار الورقية ونباتات السلطة طول العام تحت ظروف مسيطر عليها بدقة داخل احواض فلينية توضع فوق بعضها عمودياً لتنمو بدون نور الشمس الطبيعي أو التربة.
هذه المزرعة من ابداع "جينز توماس" و"بول مايرز"، وهما رجلان يتمتعان بخلفية علمية التقيا لأول مرة في احد المؤتمرات ومن بعدها عادا فالتقيا في دورة تدريبية على الملاكمة التايلاندية قبل أن يقررا العمل معاً. بعد ذلك أسس الاثنان "مزرعة أوربان" في العام 2014.
 
ديون المشروع
الهدف الذي يسعى اليه هذان الرجلان هو تغيير صيغة العلاقة بيننا وبين غذائنا، إذ يقولان ان الطرق التقليدية في الزراعة وشغل إيكرات عديدة من الارض لم يعد شيئاً قابلاً للاستدامة. تعداد البشر في العالم يزداد وتقدّر منظمة الصحة العالمية أنه سوف يصل الى حدود 9,7 مليار إنسان بحلول العام 2050 يعيش سبعون بالمئة منهم في المدن. 
لهذا السبب، وللحفاظ على البيئات الطبيعية مع تحسين الأمن الغذائي في العالم، برزت الحاجة لإعادة اصلاح شاملة في وسائل انتاج الغذاء، كما يقول توماس ومايرز.
بيد أن الاثنين يجدان نفسيهما في موقف حرج، فقد سبق أن فشلت خطط مشابهة لخطتهما فيما مضى، ومن بين تلك الخطط واحدة في منطقة مانشستر الكبرى. فقد كان المفترض بمؤسسة "بايوسفيرك"، التي اتخذت من مطحنة على ضفة نهر إرويل في سالفورد مقراً لها، أن تكون آية من آيات الابداع في دنيا المزارع المائية المدنية، إذ كانت تستخدم بقايا السمك كمصدر للغذاء الذي تعيش عليه النباتات وتنمو، بعد ذلك تعود تلك النباتات لتقوم بدور المرشّح الطبيعي للماء. 
غير أن المشروع وجد نفسه بعد ثلاث سنوات من افتتاحه غارقاً في ديون بلغت 100 ألف جنيه إسترليني وشاع أن خطة العمل فيه كانت كلها فوضى في فوضى.
خطط انتاج الغذاء على مثال ذلك لا بد لها من مواجهة تحديات مالية جدية للغاية. أولاً هناك مشكلة التكاليف التي يمكن أن تنتهي الى ارقام فلكية ما لم تضبط إدارتها بصورة دقيقة، وأساس المشكلة هنا يتعلق بالطاقة المطلوبة لإدامة السيطرة على بيئة العمل وتوفير الضوء الاصطناعي. 
بعد ذلك هناك مشكلة "بصمة الكاربون" جراء استخدام تلك المقادير الكبيرة من الطاقة وسط ما يبذل من جهود لخفض انبعاث غازات الدفيئة. هنالك ايضاً الانتقادات التي تبقى تلاحق هذا النوع من المزارع لكونها تصمم أساساً لإنتاج النباتات الورقية لا المحاصيل عالية السعرات.
بيد ان توماس ومايرز يؤكدان أن مشروعهما مختلف عن سواه، فأهدافهما كما يصفانها "موضعية ومحلية الى أقصى الحدود" وهما يريدان جعل بدايتهما صغيرة ثم يتصاعد انتاجهما في تناغم مع زيادة الاهتمام بانتاجهما. مزرعتهما العمودية الحالية، التي شحنت اليهما من كندا، سددت قيمتها منظمة "فرست آرك"، وهي منظمة استثمارات اجتماعية مقرها في "ناوزلي". أما مبلغ التمويل البالغ 150 ألف جنيه سترليني فقسم منه قرض والباقي منحة.
 
زراعة مستدامة
يأمل توماس ومايرز أن يستعيدا جزءا من المال الذي انفقاه من بيع صناديق نباتات السلطة للافراد والمحال التجارية بسعر 12,50 جنيهاً للصندوق باشتراكات سنوية قيمة الاشتراك منها 600 جنيه. أطلق الاثنان ايضاً حملة تمويل جماعي تحت شعار "خضراوات الى الأبد"، في هذه الحملة يدعم كل صندوق خضراوات يباع لأحد المشاريع التجارية ثمن صندوق ثان من الخضراوات يذهب الى احدى المدارس المحلية. من خلال هذه الحملة تمكنا من جمع 17 ألف جنيه من اصل المبلغ المستهدف وهو 25 ألف جنيه.
بدأ اهتمام مايرز، وعمره 32 عاماً، بإنتاج الغذاء عندما كان يعمل للحصول على شهادة الدكتوراه في المعهد الوطني للسرطان. 
هناك تنفق المليارات على بحوث الدواء ولكنه كان يشعر بالحاجة الى وجود أسلوب اكثر شمولاً في التعامل مع مسألة النظام الغذائي ونوعية الاغذية التي تؤثر في الصحة.
يقول مايرز: "هذه هي زراعة المستقبل. إنها خالية من المبيدات وتمثل تحولاً عن نمط الزراعة التقليدي، المرتبط بالحصان والجرار والمستمر بثبات في تخريب كوكبنا، الى نمط اكثر استدامة."
يحظى مايرز بدعم طلبة مثل "إيمانويلا أولماكو" و"ريحانة غالب"، وكلتاهما لها من العمر 14 سنة. هاتان الفتاتان لمستا بصورة مباشرة منافع زراعة نباتات السلطة في مزارع عمودية، فكافتريا المدرسة في الطابق العلوي تقدم سلطات من انتاج المزرعة، كما يتلقى التلاميذ دعوات لزيارة السرداب بصورة منتظمة للاطلاع على آليات التكنولوجيا المتقدمة التي توظف في انتاج الغذاء. 
ريحانة، التي قضت بعض سنوات طفولتها في تونس، ومثلها إيمانويلا، التي جاءت من نيجيريا، تنحدران من أسر اعتادت أن تزرع خضراواتها وفواكهها في الحديقة
الخلفية.
تقول ريحانة: "لجدتي اشجار زيتون وتين، وقد كنت اقوم برعاية نباتات الحديقة معها طول الوقت واساعدها في زراعة انواع عديدة من النباتات، ولكننا لم نعد نستطع هذا. كل ما نفعله هنا هو التوجه الى السوق وشراء أطعمة مغلفة داخل حاويات بلاستيكية من دون معرفة شيء عن الظروف التي أنتجت فيها أو الوسائل التي استخدمت في تنميتها."
تتفق أولماكو معها في أن الاعتماد الكلي على الاسواق يؤثر على علاقة الناس بغذائهم، وهي تعتقد ان المزارع العمودية سوف تغير ذلك. تقول: "نحن نذهب لرؤية تلك النباتات وهي تنمو وتكبر امام اعيننا وهذا يغير اشياء كثيرة. ولو انتشرت المزارع من هذا النوع في كل مكان لتمكن الناس من تحسس هذا الشعور وأنهم جزء من مجتمع، لأنهم حينها سوف يزرعون الغذاء بعضهم لبعض."  
 
عن صحيفة الغارديان البريطانية