معالجة راديكالية لمشكلة التشرد في هيلسنكي

بانوراما 2020/02/02
...

جون هينلي  
ترجمة: مي اسماعيل
فنلندا هي الدولة الاوروبية الوحيدة التي يتناقص عدد المتشردين فيها؛ فما هو السر؟  يكمن الجواب في اعطاء المنازل للناس حال حاجتهم اليها.. وبلا شروط مسبقة! 
بلغ «تاتو اينيسما» الثلاثين من عمره هذا العام، وهو يعيش (لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات) في مسكن يمكنه أن يدعوه بحق: منزلي.. شقة صحية ذات غرفتين ضمن مجمع سكني حديث التأهيل، في ضاحية هيلسنكي المورقة، مع إطلالة على أشجار البتولا 
يقول «اينيسما»: «انها لمعجزة كبيرة، فقد سكنتُ في المساكن البلدية العامة؛ لكن العديد من السكان كانوا يتعاطون المخدرات وكان عليّ المغادرة. مررت بعلاقات انسانية سيئة ونمت على أريكة في منزل أخي؛ ولم أحظ بالراحة. لم يكن لدي يوما مسكن خاص؛ واليوم هذا أمر مهم بالنسبة لي». فالطابق الارضي من المبنى ذي الطابقين يضم منطقة معيشة وطعام مشتركة، ومطبخا حديثا وغرفة رياضة وقاعة صغيرة للسونا (وهذه الاخيرة تعتبر من المستلزمات الضرورية تقريبا في فنلندا). أما الطابق العلوي فيؤوي 21 ساكنا؛ رجالا ونساء تقل أعمار غالبيتهم عن الثلاثين. من المهم القول هنا أنهم ساكنون؛ فكل منهم له عقد ايجار يدفع بموجبه الاجر الشهري، ويقدم (اذا اقتضت الضرورة) طلبا لفوائد الاسكان. فهذا كله جزء من جوانب الحصول على سكن وجزء من سياسة اسكانية جعلت اليوم من فنلندا الدولة الاوروبية الوحيدة التي بات التشرد فيها
متراجعا. 
 
المسكن أولا
حينما كانت هذه السياسة قيد التخطيط منذ نحو عقد من الزمن، أطلق الاشخاص الاربعة الذين جاؤوا بها (هم عالم اجتماع وطبيب وسياسي وقس) على مبادرتهم تسمية: «اسمك على باب المنزل-NimiOvessa”، (وأصبحت تعرف اليوم عموما بتسمية: “مبدأ المسكن أولا”). يقول “جوها كاكينين-Juha Kaakinen” سكرتير مجموعة العمل وأول مدير لبرنامج الاسكان: “كان واضحا للجميع أن النظم القديمة لم تعد نافعة، وكنا بحاجة لتغيير راديكالي”. 
يدير كاكينين اليوم مؤسسة “Y-Foundation” التي تطور برامج السكن المدعوم وباسعار مناسبة، ويمضي قائلا: “كان علينا التخلص من المأوى الليلي وغرف الايواء قصير الامد التي كانت موجودة حينها. تلك المرافق كان لها تاريخ طويل في فنلندا، وكان باستطاعة الجميع أن يروا أنها لن تنتشل الناس من التشرد؛ فقررنا أن نعكس الرؤية والتوقعات”. 
كما هو حال العديد من الدول؛ جرت مواجهة مشكلة التشرد في فنلندا باسلوب تصاعدي: كان على المرء المرور بالعديد من مراحل السكن المؤقت حتى يستعيد توازن حياته، وصولا الى امتلاك شقة وهو الهدف النهائي. يقول كاكينين: “قررنا أن نجعل الاسكان أمرا غير مشروط؛ أن نقول للمرء: لا داعي أن تحل مشكلاتك قبل الحصول على منزل، وبدلا من ذلك يجب أن يكون المنزل هو الأساس الأمين الذي يُسهّل عليك حل مشكلاتك”. 
بتوفر الدعم الحكومي والبلدي والمنظمات غير الحكومية، جرى شراء شقق وبناء مجمعات سكنية وتحويل مرافق المأوى المؤقت الى مساكن دائمية مريحة؛ كان منها مأوى “ركيللا- Rukkila” في ضواحي هيلسنكي (حيث يقيم اينيسما اليوم). كان هدف مبادرة الاسكان الأول توفير 2500 مسكن جديد؛ لكنها قدمت 3500 منزل. ومنذ انطلاق المبادرة سنة 2008 تناقص عدد المتشردين (الفاقدين للمسكن على مدى طويل) في فنلندا بنحو 35 بالمئة. ويمكن القول أن ظروف النوم الصعبة قد تلاشت تقريبا من هيلسنكي؛ إذ لم يتبق سوى مأوى ليلي واحد ذا خمسين سريرا في مدينة قد تنخفض درجة الحرارة فيها شتاء الى عشرين 
تحت الصفر. 
 
خدمات وتدريب
تستذكر « سانا فيسيكاسا-Sanna Vesikansa “ نائبة عمدة المدينة من أيام طفولتها رؤية.. “مئات من الاشخاص عبر الدولة ينامون في المتنزهات والغابات، واليوم لم يعد لدينا الكثير منهم؛ فالنوم في الشوارع بات نادرا جدا”. لكن الاحصاءات الحكومية البريطانية تظهر (في الوقت ذاته) أن عدد المتشردين الدائمين (وهم نسبة قليلة من عدد المتشردين الكلي) ارتفع من 1768 متشردا سنة 2010 الى 4677 متشردا في العام 2018. ومنذ ذلك الحين تقول الجهات الخيرية أن التعداد الحكومي (المستند على احصاء امسية واحدة) كشف ارتفاع الاعداد الحقيقية.
لكن مبادرة “المسكن أولا” الفنلندية لا تُعنى بالسكن فقط؛ كما يقول عمدة هيلسنكي “يان فابافوري–Jan Vapaavuori”، الذي كان وزيرا للاسكان عندما جرى اطلاق الخطة الأولية: “كان تقديم الخدمات مسألة اساسية؛ فالعديد من الاشخاص المتشردين منذ وقت طويل كانوا مدمنين أو يعانون  من مشكلات صحية عقلية وسريرية تحتاج لرعاية مستمرة، وكان يجب توفير الدعم لهم”. 
هناك في مجمع “ركيللا” السكني كادر من سبعة اشخاص لدعم واحد وعشرين ساكنا، وتقول المديرة المساعدة “سارا هابا” أن عملهم يتراوح بين الفقرات العملية التي تتطلب انجاز الخطوات البيروقراطية والحصول على نواحي التعليم والتدريب وايجاد مواقع العمل، وبين توفير فعاليات منها الالعاب والزيارات والتعلُّم (أو إعادة تعلُّم) مهارات الحياة الاساسية؛ مثل التنظيف والطبخ. تقدم الموظفة الاجتماعية المتدربة “هينا أهانين” وجهة نظرها قائلة: “الجزء الكبير من هذا العمل يتعلق بالحوار”، وتتفق معها “هابا” لأن الحوار.. “يُسهّل الامر حينما نعمل مع السكان، بدلا من الاقتصار على اجراء مقابلات رسمية؛ إذ تصبح وسائل الاتصال أكثر سهولة، ويمكننا اكتشاف المشكلات بفاعلية”. 
تقول “هابا” أن غالبية الساكنين لم يأتوا مباشرة من الشارع؛ ويمكن لمن أتى مباشرة من تجربة العيش في الشارع أن يأخذ وقتا للتأقلم مع العيش داخل فضاءات معيشية. ولكن بعد ثلاثة أشهر تجريبية تصبح عقود السكان دائمية، ولن يكون بوسعهم المغادرة من دون الاخلال بشروط العقد.
لا يسمح مجمع “ركيللا” لساكنيه بتعاطي المخدرات أو الكحول؛ رغم أن مجمعات سكنية اخرى تسمح بذلك، كما لا يُسمح بعدم دفع الايجار. يبقى بعض السكان سبع سنوات أو أكثر؛ لكن الغالبية تغادر بعد سنة أو سنتين. خلال سنة 2018 انتقل ستة مستأجرين من المجمع ليعيشوا حياة مستقلة تماما؛ أصبحت واحدة منهم منظفة تسكن في شقتها الخاصة، ودرس آخر الطهي خلال سنوات سكنه الخمس في “ركيللا” وبات اليوم يعمل رئيس طهاة. انتظم “اينيسما” في برنامج مدته سنتان لاكتساب خبرة العمل، جرى تصميمه ليقود للحصول على وظيفة.
يقول أن هذه الفرصة لترتيب شؤونه أمر لا يقدر بثمن: “لم أكن أملك شيئا، وقد وضعت في قائمة من يحتمل اصابتهم
بالتوحد.
سبق لي أن تعرضت للسرقة من أشخاص كنت أعتقد أنهم أصدقاء مرات عدة ؛ لكن الآن لدي مكاني الخاص، ويمكنني أن أبني
حياتي”. 
 
استثمارات ناجحة
تتطلب مبادرة «المسكن أولا» الأموال بالطبع، وقد أنفقت فنلندا 250 مليون يورو ( نحو 279 مليون دولار) لانشاء مساكن جديدة وتوظيف ثلاثمئة موظف اسناد جدد. لكن دراسة حديثة أظهرت بالمقابل أن الدولة وفرت نحو 15 ألف يورو ( 16,800 دولار) سنويا كانت تنفقها سابقا على خدمات طوارئ صحية وخدمات اجتماعية وقانونية عن كل متشرد بات يسكن منزلا أصوليا مدعوما. 
نالت المبادرة الفنلندية اهتماما استثنائيا خارج حدود فنلندا، من فرنسا الى استراليا؛ كما تقول نائبة العمدة «فيسيكاسا». وبدأت الحكومة البريطانية بتمويل مشروعات تجريبية مماثلة في مناطق مثل ميرسي سايد وويست ميدلاندز ومانشستر الكبرى؛ ويزور مسؤولوها المحليون هيلسنكي لمراقبة تطور المبادرة. ولكن نجاح المبادرة في هيلسنكي (إذ يعيش نحو نصف عدد متشردي البلاد) جاء لأنها جزء من سياسة اسكانية اوسع منها بكثير. وهو أيضا رأي كاكينين؛ الذي يعتقد أن العديد من المشاريع التجريبية لا يأتي الا بنفع قليل: «نعرف ما الذي يمكن أن يكون فاعلا؛ فقد تكون لدينا جميع انواع المشاريع؛ ولكن اذا لم تتوفر مساكن فعلية ((فلن ننجح)).. لهذايكون وجود خزين كاف من المساكن الاجتماعية أمرا حاسما». 
هنا حالف الحظ العاصمة الفنلندية؛ إذ تمتلك هيلسنكي ستين ألف وحدة سكنية اجتماعية، ويعيش واحد من كل سبعة أشخاص في مسكن تمتلكه البلدية. كما تمتلك البلدية أيضا سبعين بالمئة من الارض ضمن حدود المدينة، وتدير شركتها الانشائية الخاصة؛ وهدفها الحالي انشاء سبعة الآف وحدة سكنية اضافية جديدة (بمواصفات متنوعة) سنويا. تحافظ البلدية في كل حي جديد على خليط سكني دقيق وصارم، للحد من الفصل الاجتماعي: 25 بالمئة مساكن بلدية، 30 بالمئة شراء مدعوم، و45 بالمئة قطاع خاص. كذلك تصر هلسنكي أيضًا على عدم وجود فروق خارجية واضحة بين المساكن الخاصة والعامة، ولا تحدد سقفا أعلى لدخل مستأجري الإسكان الاجتماعي. استثمرت بلدية هيلسنكي وبكثافة أيضا لمنع التشرد؛ فأنشأت فرقا خاصة لمساعدة السكان والنصح لهم بمخاطر فقدان مساكنهم، وتقليل أرقام المساكن (التي تملكها البلدية والدعم الاجتماعي) التي يجرى اخلاؤها الى النصف؛ منذ سنوات 2008 الى 2016.
 
نفخر بانجازنا
يقول «رييكا كارجالاينن» كبير مخططي العاصمة: «نمتلك جزءا كبيرا من الارض، ونحتكر تحديد استخداماتها وندير شركة بنائنا الخاصة، وهذا كله أسهم بإنجاح مبادرة «المسكن أولا»؛ ببساطة لأنه لا توجد وسيلة اخرى يمكن بها القضاء على التشرد من دون رسم الصورة الاكبر لسياسة إسكان
جادة».  بالرغم من ذلك لم تحل فنلندا مشكلة التشرد كليا؛ فهناك نحو 5500 شخص على مستوى الدولة يعتبرون رسميا متشردين؛ يعيش نحو سبعين بالمئة منهم بصورة مؤقتة مع أصدقاء أو أقرباء. لكن تخطيط العمل بالقطاع العام والجهود المشتركة اسهما بضمان نجاح مبادرة «المسكن أولا» وأنها طريقة مثلى لتقليل التشرد على المدى البعيد.
وهو ما تعلق عليه فيسيكاسا قائلة: «بالطبع لم نصل خاتمة المطاف؛ فلا أنموذج عمل يمكن اعتباره متكاملا، ولا تزال لدينا اخفاقات؛ لكنني فخورة أنه كانت لدينا الجرأة لتجربة الامر». ويتفق معها العمدة قائلا: «قللنا من معدلات التشرد الطويل الامد الى حد كبير، وعلينا فعل المزيد من اسناد أفضل ومنع للتشرد، وحوار أفضل مع السكان. يساند الناس هذه السياسة فعليا؛ ولكن ربما لا يرغب الجميع بوحدات سكنية من هذا النوع في مناطقهم و بالرغم من  ذلك يحق لنا الفخر بانجازنا». 
 
الغارديان البريطانية