هـــل تــكــون الـصـيــن تـحــدي الـنـاتـــو الـمـقـبــــل؟

بانوراما 2020/02/02
...

ديفيد برينان   ترجمة: مي اسماعيل
 
بينما كان الرئيس الأميركي ترامب يهدر وقته بالشجار مع حلفائه خلال مؤتمر قادة الناتو بلندن مؤخرا؛ إتخذ الحلف بهدوء خطوة تاريخية.. إذ اعترف حلف الناتو للمرة الاولى (في بيانه الختامي) بالصين؛ واصفا قوتها المتصاعدة بأنها “تحدٍ”، معترفا بالحاجة لمقاربة موحدة تجاهها.  لم يحظ البيان الغامض بالاهتمام نفسه الذي استقطبته عدوانية الرئيس الاميركي؛ لكنه مثّل خطوة رمزية مهمة نحو ما يراه البعض تغييرا كبيرا في نطاق اهتمامات الحلف لما بعد حقبة الحرب الباردة. وبينما لايزال احتواء روسيا يهيمن على مناقشات الناتو وقرارته الستراتيجية؛ فقد اتسع منظور الحلف خلال سبعين سنة منذ تأسيسه؛ إذ يعمل أعضاؤه التسعة والعشرون معا ضد الارهاب الدولي ويساندون العمليات الأمنية المستمرة في دول مثل أفغانستان والعراق، ويناقشون ردود الافعال تجاه أزمة المناخ الطارئة، ويثبون مواقفهم لمواجهة تهديدات دولية جديدة.
دار حديث كثير عن مدى تكيف الناتو لتلك الاهداف.. ووصف الرئيس ترامب الحلف بأنه.. “عفا عليه الزمن”، وشكك بمبادئه التأسيسية حول الدفاع المشترك؛ فيما قال الرئيس الفرنسي ماكرون أن تشعُب الأولويات الداخلية ترك الناتو في ..”حالة موت دماغي”. 
 
صعود الصين
دارت العديد من نقاشات اجتماع الناتو الاخير بلندن حول البحث عن سبب واضح للوجود يمكن للحلف بموجبه أن يعيد تجميع صفوفه ويتنقل في عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد. تلوح الصين بشكل متزايد الكبر بالنسبة للقادة الغربيين، وتتحرك بكين وفق سياقاتها الخاصة، مستخدمة نفوذها الاقتصادي لإضفاء الشرعية على نموذجها السياسي الاستبدادي ونشره. أسست مبادرة “الحزام والطريق” الصينية (مقترنة بما يسمى “دبلوماسية الديون”( لوجود راسخ للمؤسسات الصينية حول العالم، وأمنت لموطئ قدم في مواقع ستراتيجية رئيسية وملكية البنية التحتية الحيوية. وصلت الصين بالفعل الى أوروبا؛ إذ مولت شركات تدعمها بكين مشروع توسيع ميناء بيرايوس في اليونان قرب العاصمة أثينا وتخطط لإنشاء محطة للغاز الطبيعي السائل في قبرص. كذلك تستثمر بكين في مشاريع ربط الطرق وسكك الحديد عبر البلقان (وبضمنها شمال مقدونيا وصربيا ومونتينيغرو والبوسنا والهرسك). يشرح “إيفو دالدر” (الممثل الدائم السابق للولايات المتحدة لدى الناتو) الموقف قائلا: “ليست القضية ما إذا كان على الناتو الذهاب الى شرق آسيا؛ بل أن الصين هي بالفعل في أوروبا”. 
ما زالت روسيا تمثل تحديا؛ وعلى من يقترح العكس مجرد النظر لاجتياح موسكو لجورجيا وأوكرانيا واغتيال المنشقين في لندن، أو تدخل الكرملين في انتخابات سنة 2016 بالولايات المتحدة وعبر أوروبا. تقول “جوليان سميث” (مستشارة الأمن القومي السابقة لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن) أن من المبكر الحديث عن حلف ناتو ما بعد روسيا: “ليس هذا بالحلف الذي يبحث عن أمر يهتم به؛ فلا يزال يتعين عليه التركيز على مهمته الأساسية المتمثلة بتعزيز الردع في وسط وشرق أوروبا”. ولكن رغم قعقعة أسلحتها وجهودها لزعزعة استقرار خصومها؛ فأن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي. ورغم أنها قوة عظمى؛ لكن لا يمكنها تحدي سيطرة الولايات المتحدة على المسرح الدولي. 
لكن الصين قضية مختلفة.. فروسيا قوة متراجعة (رغم كفاءتها العسكرية)، مدعومة باقتصاد يعتمد على المعادن (بقدر ما هو حال كوريا الشمالية). أما الصين فقوة عظمى برسم الانتظار، على مسار متصاعد تصبو لتحقيق الوعد بما يسمى “القرن الصيني”. لم تدفع الرأسمالية والانترنت بالصين الى أحضان ما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي؛ بل لقد تبنى الحزب الشيوعي في بكين ممارسات اقتصادية جعلته ثريا، وتقدم تكنولوجيا ماجعل حكمه الاستبدادي أكثر مخافة. تجلس الدولة الأكثر سكانا في العالم تحت حماية ثاني أكبر ميزانية عسكرية على ظهر الكوكب؛ وهي ميزانية نمت بإطراد خلال العقود الاخيرة. لكن براعة الصين التجارية والتكنولوجية (وليست سطوتها العسكرية) هي التي تسبب القلق للناتو. 
 
بداية الستراتيجية
قال “ينس ستولتنبرغ” أمين عام حلف الناتو للصحفيين بعد اجتماع قادة الناتو الاخير بلندن: “بحثنا للمرة الاولى صعود الصين؛ التحديات والفرص التي يقدمها، والتبعات على أمننا”. وقال دبلوماسيون سابقون عديدون أن تصريحات اجتماع لندن مجرد نقطة بداية لستراتيجية الناتو تجاه الصين؛ رغم أن الحلف ما زال منقسما حول كيف وأين ومتى تجري الاستجابة لتأثير الصين المتنامي. وكما قال “دالدر” ان تداخل الصين في أوروبا.. “يثير لا محالة تساؤلات حول مستقبل الحلف..”. أشار دالدر أن التحدي الصيني مختلف تماما عن روسيا؛ فالصين توسع سيطرتها من خلال البنية التحتية الحيوية وشبكات الاتصالات عبر أوروبا، بموافقة وسماح حكومات حريصة على الهبة المالية التي يمكن أن تقدمها الصين؛ خاصة الدول الأصغر والأكثر فقرا. لا جدال أن الناتو وصل للحفلة متأخرا؛ إذ قال ثلاثة من أربعة دبلوماسيين سابقين جرت مقابلتهم لإعداد هذه المقالة أن الناتو كان بطيئا على وجه الخصوص في مواجهة التحدي الصيني؛ وأن تعقيد ذلك التحدي هو الذي يجعل من الصعب الاتفاق على مقاربة موحدة. 
يعتقد دالدر أن الامم الاوروبية لم تبدأ الا في السنوات الأخيرة بالنظر الى الصين كونها أكثر من كيان اقتصادي؛ وأن بعضها (خاصة دول وسط وشرق أوروبا) ما زالت تنظر للصين على أنها.. “مصدر للتمويل، وليست كيانا جيو- سياسي كبير”. قد يكون الناتو أدرك التحدي؛ لكن يبقى الطريق طويلا نحو الاستجابة الموحدة. يمضي دالدر قائلا: “هناك اختلافات متنامية حول احتمال مواجهة الناتو للصين”. قد تتخذ الولايات المتحدة خطا أكثر تشددا؛ لكن الدول على الحواف الشرقية والجنوبية لأوروبا (ومنها قوى أوروبية مثل ايطاليا واسبانيا) مازالت ترى في بكين شريكا اقتصاديا مربحا في المقام الأول. 
 
موقف أميركا المتصلب
أجبر تأثير الصين الناتو على اجراء حوار عن تطوير شبكات “5G”، على سبيل المثال؛ إذ رأت الولايات المتحدة في تلك السيطرة الصينية على هذه البنية التحتية الحيوية تهديدا أمنيا غير مقبول، وحاولت (بنجاح متفاوت النسب) لوي أذرع حلفائها الاوروبيين للوقوف ضده، وكشفت عن المزيد من الانقسامات. يرى “فابريس بوتييه” (خبير سياسي فرنسي، المدير السابق لتخطيط السياسات في الناتو) أن التهديدات الاميركية بتعليق التعاون الاستخباري مع الحلفاء الأوروبيين (الذين سمحوا للصين بتأسيس شبكات “5G” الخاصة بهم).. “لم تكن مجدية جدا”. لكنه قال مع ذلك أن الضغط أجبر الناتو على أخذ الأمر بجدية؛ رغم أن الولايات المتحدة خففت من نهجها منذ حين. يعتقد “بوتييه” أيضا أن اعتراف الناتو الاخير بالتحدي الصيني قد يكون في الواقع جهدا لاسترضاء أميركا التي يقودها ترامب؛ الذي يدفع نحو موقف أكثر تشددا تجاه بكين مما يفعل باقي الحلفاء. ووصف البيان الختامي بأنه..” أمر يلبي حاجة أساسية” للبيت الأبيض؛ فيما يحاول الناتو الحفاظ على وحدته. 
أشرف ترامب على موقف اميركا المتشدد من الصين، لكن التحدي الذي تمثله بكين كان موجودا قبل فترة رئاسته، وقد ينمو ليكون أكثر حدة بعد مغادرته للبيت الابيض. وسيكون المشرعون الاميركان وشركاؤهم في الناتو مجبرين على مواجهة صين مفعمة بالحيوية؛ بغض النظر عن مدى استيائهم من ستراتيجية ترامب تجاه بكين أو عدم فاعليتها حسب تقديرهم. 
تشكل سطوة بكين التكنولوجية جزءاً مهما من الأحجية؛ إذ أصبحت تكنولوجيا الاتصالات الصينية بالفعل تشكل تحديا. لكن دالدر يعتقد أن تقدم الصين في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية “quantum computing” والروبوتات سيكون له.. “تأثيرات ضخمة” على دفاع الناتو. ومضى قائلا: “أصبح الصينيون لاعبين بطريقة لم يكونوا عليها قبل خمس أو عشر أو خمسة عشرة سنة..”. تقول “سميث” أن الناتو ليس موحدا ((في التعامل)) تجاه الصين؛.. “ولذلك فمن المهم جدا بالنسبة للحلف البدء بالتشاور تجاه ذلك التحدي. تنظر دول مثل البرتغال واليونان الى الصين باستحسان، أكثر مما تفعل ألمانيا وفرنسا.. لذا علينا ردم هذا التباين ومساعدة الدول على تفهم ما تفعله الصين”.  
نقاشات عن الحرية 
مهما تكن الحالة التي يختلف بها الحلفاء حول الصين؛ فأن النفوذ السياسي يأتي مع الاستثمارات. وقد أدرك الأميركيون هذا الأمر تماما خلال نقاش الشركات عن حرية التعبير حول الاحتجاجات في هونك كونك؛ وهو نقاش اجتاح الدوري الاميركي لسلة المحترفين وعدة شركات أميركية أخرى. ففي نهاية المطاف يزيد الاستثمار الصيني والسيطرة اللاحقة على البنية التحتية المادية والاتصالات من صعوبة الحفاظ على درع دفاعي موحد للناتو. حذّرت سميث أن الاستثمار الصيني يمكنه.. “إضعاف وحدة اوروبا وتصميمها في مواجهة الأزمات”؛ وتآكل القيم الديمقراطية الليبرالية التي تشكل حجر الزاوية لحلف الناتو؛ الذي يحتاج.. “على الاقل للبدء بحوار حول الصين”. وتساءل دالدر (من الناحية العملية على الأقل): “كيف تخوض حربا في البحر المتوسط إذا كانت الموانئ التي قد تحتاج لزيارتها لم تُبنَ من قبل الصينيين فحسب؛ بل مملوكة لهم؟”. 
يشرح السفير الأميركي السابق لدى الصين “ماكس بوخوس” أن الصين (مثل روسيا).. “ستقوم باستغلال نقاط الضعف”؛ مما يحتم على دول الناتو أن تقف متحدة. وأضاف أن الناتو الموحد يزيد من احتمال التوحيد “تجاريا فيما يتعلق بالصين”. ومضى قائلا أن بكين لن ترحب بأي مقترح ليبدأ الناتو بإيلاء انتباه أكبر للصين؛ مستذكرا تفضيل الرئيس السابق “دنغ شياو بينغ” لمبدأ” فرّق واختبئ” على المسرح الدولي. بقي الحزب الشيوعي الصيني (حتى مجيء الرئيس الحالي “شي جين بينغ” الى السلطة) راضيا بالبقاء في هدوء نسبي على المسرح الدولي؛ ولكن حتى الآن..”تحب الصين تجنب لفت الانظار الى أعمالها؛ والرئيس “شي” لا يرسل التغريدات”. 
 
مقاربة مختلفة!
لم يُخفِ قادة الناتو حاجة الحلف الى التطور؛ فهناك روسيا، والارهاب، والتحول المناخي، والمحيط المنجمد الشمالي.. والصين ستكون جزءا من ستراتيجية الحلف المستقبلية؛ في وقت تستجمع دوله قواها لمواجهة تحديات العصر؛ وبعضها أمور لم تدر في تصور مؤسسيه قط. ولكن لا حاجة لأن يصير الناتو والصين خصوما؛ كما قال أمينه العام “ينس ستولتنبرغ” بعد اجتماع لندن: “يقدم نهوض الصين فرصا اقتصادية كبيرة”. كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون أن هدف الناتو ليس وصف الامم الاخرى مثل الصين بأنهم أعداء. أما الخبير “فابريس بوتييه”  فيقول أنه ليس على الناتو.. “معاملة الصين على أنها تهديد”، بينما عبّر كل من “دالدر” و”بوخوس” عن تخوفهما من أن “تتباعد” الصين عن الغرب.. تكنولوجياً وسياسياً؛ مما يؤسس لحرب باردة جديدة. يرى “كريس فان هولين” (السيناتور عن ولاية ميريلاند) أن هذا الموقف الأخير سيكون.. “خطأ فادحا”؛ إذ اشترك السيناتور في جهود لإقامة قدر أكبر من الرقابة على الشركات الصينية العاملة في الولايات المتحدة ولتعزيز القيود على شركة “هواوي”؛ قائلا: “علينا أن ندرك بأن ستراتيجية الصين الدولية الاقتصادية والأمنية تتضارب بالفعل في بعض المواقع مع مصالح الناتو وقيم الحرية والديمقراطية الغربية، ومع الاسواق الحرة. واعتقد أن من المهم جدا أن يبدأ الناتو حواره ذاك ((عن الصين))”. 
مع أن أوروبا هي نقطة التركيز المبدئية؛ يمكن للناتو أن يتقارب مع ديمقراطيات آسيوية حريصة على رؤية الصين مقيدة اقليميا، ومن ضمنها- اليابان وكوريا الجنوبية والهند واستراليا. ويقول “بوتييه” أن اجراء “خطوة نوعية الى الامام” سيتضمن زيادة التواصل مع تلك الدول، والوصول الى ما هو أبعد من الاجتماعات الثنائية السنوية “السطحية” التي يحضرها مسؤولو الناتو عادة. ويمضي موضحا: “علينا التحدث والمشاركة في أسس أكثر انتظاما مع أولئك الذين هم بالفعل في المقدمة” من التحدي الصيني. 
أما “دالدر” فيؤكد أن الصين ليست الاتحاد السوفييتي؛ فالتحدي أكثر دقة بكثير من حيث درجات الاختلاف، قائلا: “نحن أكثر اندماجا عسكريا؛ ونعيش اليوم في عالم أكثر عولمة وترابطا. 
وبذا يكون تهديدهم ليس عسكريا بالدرجة الاساسية؛ بالرغم من أنه كذلك أيضاً. وتبعا لذلك علينا التنافس والتعامل مع ذلك التهديد بطريقة مختلفة جدا”.. وعلى دول الناتو الآن تقرير مقاربة التحدي الصيني باستراتيجية موحدة أم بطريقة أكثر تجزئة ومرحلية.. ومضى قائلا: “يمكن أن نعتبر إعلان اجتماع لندن مؤشرا (وإن كان خطابيا على الاقل) على قرار الناتو؛ وهو- دعونا نحاول حل هذه القضية معا”. ومن المنظور الاميركي قالت سميث: “لا يمكننا معالجة العديد من التحديات المرتبطة بنهوض الصين بمفردنا؛ فهذه ليست بالقضية الثنائية، ونحن بحاجة للأصدقاء والحلفاء لمواجهة ما تفعله الصين”.