التداخل في أنماط الاقتصاد العراقي

آراء 2020/02/05
...

رزاق عداي
معظم، إن لم يكن كل اقتصادات بلدان العالم، تسمح بتنميطها، أو إنها مؤهلة للتوصيف والتصنيف، وفقا لشيوع أنظمة انتاج محددة وشكل توزيع الثروة الوطنية، ونوع الملكية لوسائل الانتاج باستثناء الاقتصاد العراقي فهو بلا هوية، عائم، وممتنع عن التعيين والقوننة.
فهو ليس من اقتصادات القطاع العام، أو قطاع الدولة في مجال التنفيذ، ولا هو من متبقيات ما سمّي جزافا، في النظام السابق، بالاقتصاد الاشتراكي، ولا يحمل أي معلم من ملامح القطاع الخاص، فما يميزه التخبط والـ"لا استقرار"، وهو ريعي، النشاط العام فيه يعتمد العقود لا طريق التنفيذ المباشر مما يسمح بأكبر قدر من الفساد. أمّا الميزة العظمى فيه فهي النقص الفادح في الانتاجية الفردية والكلية! 
كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ العام 2003، كانت قد تقدمت ببرامج اقتصادية أقل ما يقال عنها بأنها باذخة، وشديدة الطموح، ولكنها، في كل مرة، لم تحقق حتى النزر اليسير من الانجاز ممّا وعدت به،
وعلى مدى الستة عشر سنة الماضية لم نشهد توجها عمليا باتجاه التقليل من مظاهر الاقتصاد الريعي المعتمد على عائدات النفط، فمنذ أن أحرز النفط المرتبة الأولى في تشكيل الدخل القومي العراقي، في مطلع سنوات الستينيات من القرن الماضي، أخفقت كل الجهود السابقة الرامية في تنويع الاقتصاد وتعظيم الموارد المالية للخزينة العراقية، فبقي الوضع الاقتصادي راكداً مستفيداً من الزيادات النسبية التي تحصل في أسعار النفط.
أمّا ما يلفت النظر بخصوص الظاهرة الريعية التي تسم الاقتصاد العراقي، في السنوات التي أعقبت العام 2003، أنها تكرست بشكل خطير إذ لم تغب مبادرات تخفيفها حسب، بل جرى المضي نحو تدمير بنى الانتاج الأخرى المعوّل عليها لتدعيم موارد الخزينة العامة، فحصل تصفير للقطاع الصناعي، وشبه إلغاء للنشاط الزراعي، بنوايا مقصودة تهدف إلى شيوع ظاهرة العقود في المعاملات الحكومية في الوزارات والمؤسسات والإدارات كافة لتكون شكل النشاط الاقتصادي بعمومه!
ولغرض تعقب مسار الاقتصاد العراقي لا بد من مقدمة تاريخية مختصرة في هذا المضمار، إذ نلاحظ أن المنحنى له تأثر بفاعلية عدة قوانين صدرت في عهود مختلفة ألقت بظلالها القاتمة في أطوار تاريخية لاحقة، من هذه القوانين مثلا قانون الإصلاح الزراعي لسنة 1959، الذي سن بدواعي تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع ملكية الأراضي الزراعية، فمن الغريب أن تناقصا حصل في الغلة الزراعية المستحصلة سنويا في أعقاب صدور القرار، فالاقتصاد العراقي الذي انطلق مع تأسيس الدولة العراقية كانت هيكليته إقطاعية أوجدها الاحتلال البريطاني، وميزته الانتاج الوفير بفضل خصوبة التربة ووفرة المياه، لذلك كانت مساهمته تأتي بالدرجة الأولى في تشكيل الدخل القومي العراقي آنذاك، في أغلب سنوات العهد الملكي حتى العام 1959 حصرا، حسب جداول نشرها حنا بطاطو في كتابة (العراق)، فكان المنتج الزراعي العراقي يسد الحاجة المحلية، وما يتبقى يصدر إلى دول 
الجوار.
أمّا القانون الثاني الذي صدر في العام 1964، فهو قانون تأميم كل أنشطة القطاع الصناعي حتى المشاريع الصغيرة منه، تشبها بتجربة اجراءات التأميم التي حصلت في مصر وكان مصيرها الاخفاق الكبير، وكان الهدف من هذا القانون ربط هذا القطاع بعجلة الدولة. 
بعد العام 1968 انضم قطاعا التجارة والخدمات إلى الدولة بقوانين تشبه السابقة في عشوائيتها، لتطبق الدولة في نهاية عقد السبعينيات على كل قطاعات الاقتصاد، وليتقدم النفط ليكون المورد الوحيد الأساس لموازنة الدولة.
ومنذ الحرب العراقية – الإيرانية، ثم حرب اجتياح الكويت، ثم العقوبات الاقتصادية الطويلة، بات الاقتصاد العراقي خارج الحسابات والتخطيط، وفي العام 2003 كان الأمل معقودا على بناء الدولة وإجراء الحداثة، ولكن الذي حصل هو نكوص فادح من نوع آخر، فأهم ما يميز الشريحة السياسية التي تداورت السلطة، أنها لا تمتلك رؤية تحديث وبناء دولة، لكونها اعتلت الحكم بوازع التمسك بالسلطة والنفوذ والمال، فالتوافق في ما بينها أنتج المحاصصة، وهذه الأخيرة أنتجت الفساد 
بضراوة. 
الفاعل الأول في تشويه البنية الاقتصادية، في عراق ما بعد 2003، هو الفساد السياسي، لأن الأحزاب التي حكمت الدولة تغانمت في تداول السلطة ونهب المال العام، تعددت ملفات الفساد، وتنوعت باعتراف رؤساء الوزارات أنفسهم، إذ بلغت حدا من الشرعنة والتقنية ونشطت كمنظومات، وبصيغة الدولة العميقة، فبات من الصعبوبة مقاومة التشويه والشرخ في الواقع الاقتصادي إلّا عبر التغيير الجذري لتأسيس أنماط متقدمة.