السيرة الشعبَّية والبناء السردي

ثقافة شعبية 2020/02/08
...

حسين السلمان
 
 
تؤكد كل التعريفات أن السيرة ما هي إلا مجموعة من حكايات مستقاة من تراث الشعوب ، وهي تقوم على أساس التمجيد بالأخلاق الكريمة والشهامة الإنسانية ، إضافة إلى كشف الوجه الآخر مثل الخيانة والرذيلة والغدر . والسيرة الشعبية غالبا ما يكون شكلها وطريقة سردها يعتمدان على الشكل (الحكواتي ) في الجانب الشفوي 
منها 
 
الرواية التاريخية
خلال المسيرة الصعبة للسيرة الشعبية ، ومواجهتها للعديد من العوائق والصعوبات استطاعت أن تؤكد أهمية وجودها عبر قنوات ارتباط مهمة تمثلت بتداخلها مع التاريخ الإنساني ، إضافة إلى قوة ترابطها مع حياة البشر ، فاستطاعت أن تغرس جذورها بذات العمق التاريخي والحضاري للنشوء الإنساني 
تتجلى واحدة من خواصها في قدرتها الفائقة للاستفادة من الفنون والآداب ، والدخول إلى عوالمها وأشكالها من أجل أن تجد لنفسها سبلا وطرقا خاصة 
بها . 
ولقد كان الأقرب إليها ، من حيث السرد ، ومن حيث الحكي ، هو الرواية التاريخية ، انطلاقا من أن السيرة الشعبية تعتمد في أساسها على عناصر مهمة يمكن الإشارة إلى بعض منها مثل : الموضوعية ، الأسباب ، النتائج ، العلاقة التاريخية ، الاعتماد الكلي على الواقع ، من دون أن يكون السارد الشعبي ( الحكواتي ) مؤرخا فقط وكونه مهتما وملتزما التزامنا حرفيا بحقائق الواقع ، بل هو يتحول إلى سارد فني ( يعيد ترتيب هذه المنظومة برؤى أدبية جديدة ، تعمل على الاستفادة من هذا التدوين المُختلَف عليه سلفًا وتوظيفه في استدعاء البطولة ، والمتأمل لمتون سيرنا الشعبية العربية يجدها تكتنز كمًا هائلًا من النصوص الغريبة عن بنيتها الشكلية ، وذلك لأنها مستمدة من أجناس وأشكال أدبية وتعبيرية 
أخرى) 
 
نحن والسيرة
باستعراض سريع نجد حضورا كبيرا للسيرة الشعبية في الرواية 
العربية . ويمكن بعجالة الإشارة إلى نماذج منها : الحرافيش وليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ ، مالك الحزين لإبراهيم أصلان ، سيف بن ذي يزن لفاروق خورشيد . 
ويعود السبب في هذا التعامل إلى (أن المرونة التي تميزت بها السيرة الشعبية وبخاصة في ناحيتها الشكلية جعلها تتقبل تلك النصوص تقبلًا فنيًا ، وكأنها من جنسها وفصيلتها ، وأعطتها طابعا بنائيا يسمح بإعادة النظر لبعض الأحداث والشخصيات التاريخية ، وإمكانية التفاعل معها في سياق سردي روائي يعيد صياغة التاريخ بما يتفق مع روح البطولة ، وإعادة التأهيل النفسي والبشري عن طريق الاستعانة بالتاريخ الحر 
للإنسانية)
 
خلاصة مفيدة
نستخلص مما سبق أن السرد الروائي اعتمد (الشكل الشعبي ) وجعله يتداخل تداخلا عضويا في ( البناء السردي ) ، بمعنى أنه أوجد توازنا ( بين الأبعاد التراثية والمعاصرة في الشكل التراثي إذ يصعب فصل أحدهما عن الآخر في عملية البناء التاريخي واستدعاء مواقف إبداعية من الماضي يجسدها أشخاص شعبيون تنطبق مع ظروف معاصرة ، بمعنى تحقق الملامح العامة للتاريخ في الشكل الشعبي من دون صدور أحكام مطلقة ، إذ حاولت الرواية التي تناولت/ السيرة الشعبية على ملء الفراغات التاريخية التي لم تدون في السجلات التاريخية ، وتحاول أن تعيد العلاقة بين المتن والهامش 
التاريخي)
أن هذا فتح الأفق واسعا للخيال وللعقل ، على حد سواء ، في تأويل السيرة الشعبية وإدخالها ضمن شبكة أسئلة الإنسان الحديث لمناقشة القضايا الراهنة التي منها ما يمس المسكوت عنه والتابلوات والثالوث وغيرها ، وذلك عبر مداهمة فكرية ــ فنية للحقائق التاريخية وعبر استخدام الخيال الخلاق الذي يصنع ( أحداثا موازية للأحداث التاريخية ) منطلقا من أسس جديدة في النظرة إلى السيرة الشعبية بوعي ثاقب ، غير ثابت على حقيقة واحدة ، بل ينظر لها من زوايا متعددة ، لعرض مجموعة حقائق ، لكن ( برؤية مغايرة ) للأحداث 
التاريخية . 
وهذا ما أدعو إليه في تعامل السارد العراقي إلى ولوج هذا الجانب الإبداعي المهم ، الذي اعتقد أننا بحاجة ماسة إليه ، لأنه يكاد يكون مختفيا ، أو ضعيف الوجود ، في مسيرة السرد المحلي
 ، وهذا ، في أساسه ، تتطلبه الحداثة ، وحتى ما بعد الحداثة ، فالتفاعل ما بين السيرة الشعبية والسرد الروائي العراقي يدعو إلى مواكبة الحياة الإبداعية الثقافية 
العراقية..