أميركا تغرق في وهم ستراتيجيتها الأفغانية

بانوراما 2020/02/09
...

جيد بابين  ترجمة: بهاء سلمان
 
استندت “أوراق أفغانستان” إلى تقرير قدمه المفتش العام الخاص بوكالة إعادة بناء أفغانستان، إذ سعى ذلك التقرير المتألف من نحو 400 مقابلة مع قادة عسكريين وجنود ودبلوماسيين ومسؤولين بالحكومة الأفغانية، إلى كشف الدروس التي تعلّمها الأميركان من تلك الحرب.
ويخلص تقرير الواشنطن بوست إلى أن قادة الجيش الأميركي والمسؤولين الحكوميين الكبار قد تعمّدوا الكذب على الشعب لتضليلهم حول ما كان يزعمونه من نجاحات حققتها الحرب. ويصر القادة العسكريون على عدم وجود حملة للأكاذيب المتعمدة، فهناك بعض الصحة لما أطلقوه من تصريحات كل حسب مكانته.
أصر رئيسان للولايات المتحدة على “بناء الأمة” كونها تمثل ستراتيجية، غير أن بناء الأمة لا علاقة له بالانتصار في الحرب بوصفها معايير للنجاح، ويتمثل بناء الأمة بحجم القوات الأفغانية التي تم تدريبها وتأهيلها أو عدد البنات اللاتي دخلن المدرسة، كمسوغ لأن يقدم القادة العسكريون روايات مفبركة إلى الرأي العام.
تعد نتائج 19 سنة من الحرب في أفغانستان واضحة للغاية، فحركة طالبان العنيدة تسيطر على نحو نصف البلاد، وفشلت ستراتيجية بناء الأمة بشكل كامل، ولم يتحقق شيء يساهم بتعجيل انسحاب القوات الأميركية. وقد قتل نحو 2400 فرد من تلك القوات خلال المعارك، مع إصابة أكثر من عشرين ألف آخرين، وأنفقت نحو ترليون دولار في أفغانستان، في ما حاولت تشييد المدارس والطرق والسدود ومحطات انتاج الطاقة الكهربائية، ومع ذلك، تبددت الكثير من الأموال ضمن حلقات الفساد التي تطوّق تلك البلاد.
 
تكرار الأخطاء
ويبدو أن هناك القليل فقط الواجب إظهاره لتقدير ما قدمته الولايات المتحدة، لأن الأميركان لم يفهموا مطلقا المجتمع القبلي لأفغانستان وثقافتها والتأثير العميق للدين الإسلامي في حياة الأفغان. 
خلال حملته الرئاسية الأولى لخوض الانتخابات، انتقد جورج بوش الابن جهود بناء الأمة التي كان يبذلها آنذاك سلفه بيل كلينتون في الصومال، فقال بأنه إذا ما صار رئيسا فسيعمل على إيقاف تلك الخطوة. بعد ذلك أتت أحداث 11 سبتمبر والتحرك العسكري ضد القاعدة وطالبان. وقرر بوش نقل انموذج بناء الأمة، الذي أخفقت أميركا فيه، من فيتنام إلى الصومال، لكن الوهم الأكثر عمقا الذي عانى منه الرئيس بوش وجنرالاته كان إساءة فهم وضع طالبان كونهم يمثلون تمرّدا، ففي أفغانستان، ومثل السوفيت سابقا، كان الأميركان هم المتمردون الرافضون للغزو السوفيتي لأفغانستان. 
كتب الضابط الفرنسي الراحل ديفد غالولا، الذي تعلّم مكافحة التمرّد في الصين وفرنسا والجزائر وماليزيا، العمل الأكثر عمقا حول محاربة التمرّد العسكري، حمل عنوان “حرب مكافحة التمرّد: النظرية والتطبيق”، حيث عرّف التمرّد بأنه يمثل كفاحا طويلا يؤدى بطريقة منهجية، لأجل كسب كلا أمرين: أهداف متوسطة وقلب النظام الموجود.
يتألف نظام أفغانستان الموجود من ثقافة قبلية متجذرة لقرون طويلة وغطاء من طالبان، وبحسب تعريف غالولا، تعد الستراتيجية الأميركية لبناء الأمة في أفغانستان بمثابة تمرّد. وبدلا من فهم كتابات غالولا، والتأريخ والثقافة الاسلامية البالغة التأثير لأفغانستان، نفذ القادة السياسيون والعسكريون الأميركان ما وصفوه بمكافحة التمرّد.
ساهم الجنرال ديفيد بترايوس وجيمس ماتيس بتأليف ستراتيجية لمكافحة التمرّد، أطلق عليها “كوين” (COIN)، للعراق وافغانستان  والتي كانت مشتقة من الستراتيجية الفاشلة في فيتنام، وتمثلت أهدافها بتوفير أمن محلي للأفغان بالوقت نفسه الذي يتم تمكينهم من بناء ديمقراطية غربية الطراز. كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وديفد بترايوس وبقية الجنرالات متفائلين بحذر على الدوام حيال افغانستان، لكن بسبب إصرار ثلاثة رؤساء متعاقبين على مواصلتها، عجز القادة العسكريون، وربما كانوا كارهين، عن إقناع الرؤساء بالتخلّي عن ستراتيجيتهم الواضحة الفشل.
 
تجارب سابقة
يبلغ تعداد سكان أفغانستان ما يقارب 37 مليون نسمة ينتشرون عبر أراضي البلاد. وخلال الاحتلال السوفيتي لأفغانستان (1979– 1989)، وصلت ذروة أعداد القوات السوفيتية الى نحو 120 ألف، بينما فاقت أعداد القوات الأميركية المئة ألف جندي في وقت من الأوقات كأكثر وجود عسكري أميركي، وكانت أعداد القوات السوفيتية الغازية أقل بكثير من نظيرتها الأميركية، مع وجود أعداد قليلة جدا من القوات الأميركية لتوفير الأمن للمحليين حسبما تستلزم ستراتيجية كوين.
النتيجة التي خرج بها المراقبون خلال 19 سنة الماضية هي عدم رغبة الأفغان بالديمقراطية التي صدرتها لهم الولايات المتحدة لأنها غير متوافقة مع الاسلام، فطالبان والقاعدة تصف الجنود الأميركان بأنهم “صليبيون”؛ ضمن منظور القرون الوسطى، والذين كانوا يسرقون من عامة الناس دينهم ويستبدلونه بالديانة المسيحية.
كما كذّب القادة العسكريون والسياسيون الأميركان على أنفسهم حول دور باكستان ودول أخرى تساند طالبان، والقاعدة على أقل تقدير في باكستان، فقد تلقّت طالبان طيلة سنين أموالا وتجهيزات من قبل باكستان وروسيا والصين وغيرها من الدول.
يقول ترامب دائما بأنه يقف بالضد من ستراتيجية بناء الأمة، لكنه لا يملك خيارا بديلا، ويقال أنه يأخذ بنظر الاعتبار انسحاب أربعة آلاف جندي خلال الأشهر القادمة، وهنا ينبغي سحب غالبية القوات البرية الأميركية من أفغانستان، مع وضع خطط لمرحلة ما بعد الانسحاب. وطالما لا تقدم الولايات المتحدة على تدمير ايديولوجية طالبان، فستعود افغانستان إلى مرحلة ما قبل سبتمبر كحاضنة آمنة ينطلق منها الارهابيون لشن الهجمات ضد 
الغرب.