عندمـــا احتـرق كــل شيء فــي أسترالـيـا

بانوراما 2020/02/10
...

روث شيلدز

ترجمة: بهاء سلمان

وأعقب ذلك دور بقية العوائل المجاورة، وودعتهم لأصعد الى الطابق العلوي من منزلي، لأشغل جهاز منقي الهواء، وأحتضن قطّتي ميشيل في غرفة نومي القديمة واضطجع منهكة. قبل ذلك بعشرة أيام، كانت السماء زرقاء صافية، وكان الهواء نظيفاً ودرجة الحرارة بحدود 33 درجة مئوية. فتحت النافذة لألطف الأجواء، فكان هناك دخان يتخلل المنطقة يكفي لأن يجعلني أفكر: "ماذا لو اضطررت للمغادرة مشيا على الأقدام؟"
نهضت من نومي وتحدثت مع نفسي عن كيفية رزم حاجياتي: "بوسعي وضع القطة "ميشيل" في حاملة القطّط عند المقعد الأمامي، وبمقدوري حمل حقيبتي على ظهري، ووضعت أجهزة الحاسوب المحمول وشاحنات الهاتف النقال بداخل الحقيبة، وأضفت لها وثائقي الخاصة من بوليصة التأمين على الحياة وجواز السفر والمحفظة ودفتر الصكوك وذاكرتي بيانات متنقلة تحويان أعمال التنشيط اللغوي.
جلست ونظرت من حولي، متسائلا: "ماذا يمكنني أخذه أيضا اذا كانت لدي سيارة؟" قبل عامين، جلست هنا في الغرفة نفسها، وودعت كل شيء تقريبا امتلكته، ووجدت نفسي أنظر من حولي لكل شيء مرة أخرى وأؤدي التقييمات نفسها التي فعلتها سابقا. "جميع الحاجيات يمكن تعويضها إلا إذا كانت غير قابلة لذلك." 
عندما استيقظت صباح اليوم التالي، كان الدخان يتزايد كثافة، وأسرعت أتنقل بين أرجاء المنزل لأغلق منافذه وأنا أسعل. وبلا تفكير، وضعت ملابس نظيفة على السرير، ورزمتها في حقيبتي الصوفية. القطّة خرجت أمامي فزعة من الغرفة، ولم أستطع ايجاد مكان اختبائها، وقلت لنفسي: "حسنا، الحريق يبعد عني ثلاثين كيلومترا.. سأكون بخير."
 
تحضيرات الرحيل
نقلت الماء والطعام، ومن ثم، وبثقة ورزانة مزيّفة، تركت كل شيء خلفي في الغرفة ما عدا حقيبة الظهر والحقيبة الصوفية. وفي السيارة التي استأجرتها لقضاء عطلة نهاية الاسبوع، وضعت قناعا خاصا للوجه يقيني من الدخان، وكيّفت نظاراتي عليه، وشغلّت جهاز التبريد. ومع وصولي لمنطقة قريبة من مدينة سان فرانسيسكو، بدأت رسائل نصية تحذيرية من انقطاعات محتملة للطاقة خلال النهار؛ فقد كان الدخان سيئا لدرجة جعلتني أقرر البقاء وأبدأ بمراقبة مؤشر جودة الهواء على أحد المواقع، إذ كنت أتأمل هبوب الرياح على أمل أن تسحب الدخان من خليج الجنوب، وبطريقة لا تعمل على تأجيج الحرائق باتجاه الشمال.
بحلول الصباح، وعلى العكس من رغباتي، انتشرت الحرائق باتجاه الجنوب، وصار أمر اخلاء هيلدسبيرغ ووندسور، الواقعتين شمال سانتا روزا مباشرة، ضروريا للغاية. أسرعت بارسال رسائل نصية الى أصدقائي لأطمئن عليهم، وبدأت أقدر ان كان بامكاني العودة لجلب القطّة ميشيل. تحدثت مع تاتيانا، وتوصلنا الى وجود متسع في منزلها لايوائي. أكتشفت أنني ملتصق تماما بالأخبار التي تغطي الحرائق، وبدأت تظهر لدي أعراض اضطرابات مرحلة ما بعد الصدمة مثلما حصل قبل سنتين. ومع متابعتي لتلك الأعراض، تركت رسالة لصديقي "بول" طلبا للمساعدة؛ وتكلمت لبرهة مع أمي، التي انتقلت بالحديث الى مواضيع أخرى، واكتشفت قابليتها على فعل ذلك الأمر بشكل غريب للغاية جعلني أثني عليها.
اتصل بي بول ثانية، ووصفت له مشاعر الذعر التي انتابتني، وعدم مقدرتي على اتخاذ قرار لفعل شيء ما، وبكائي فجأة بشكل متقطع. أخبرته أن الناس الذين يتحدثون عن أمور "طبيعية" لكن يبدو لي أنهم من المجانين. قبل سنتين، عرف بول هذه الأمور والأعراض الأخرى عني، وتدخّل لكي يقنعني بالالتحاق بدورة تمارين تجرى داخل وحدات عسكرية خاصة. كانت التمارين تركز على فعل أشياء معيّنة، مثل تحريك اليدين والعد ودعك البطن وغير ذلك من أفعال تتطلب تركيزا يساعد على تهدئة النفس.
 
لقاء ودي
خلال تلك الليلة، وفي منزل جميل بمنطقة وادي بورتولا، كان هناك بعض الاشخاص الذين عشت معهم لمدة قاربت الأربعين سنة ينتقلون من غرفة الى غرفة ضمن جماعات متفاوتة التغير على الدوام، وتبادل بعضنا العناق بين فترة وأخرى وعلت الوجوه الابتسامات. وسأل الحاضرون عن إحدى النساء التي لم تتمكن من المجيء، فتذكّرت أن أبلغ الجميع بتحياتها. كان الأمر مثل تعارف مستعجل، لكننا جميعا أردنا مسبقا الخروج مع بعضنا البعض. لم يكن هناك متسع من الوقت، ولكننا كنا هناك، وحظينا ببعض الوقت، وكانت الأحوال كلها جيدة.
وسط خضم القلق حول ما كان يحصل في المنزل، أطلقت لنفسي حرية التعامل مع هؤلاء الأصدقاء، وتركت أمنياتهم الطيّبة تريحني وتخفف عناء الفراق. قدت السيارة شمالا وسط طريق حالك الظلمة، وتنهدت ارتياحا حينما عبرت المنعطف المؤدي الى المحيط الهادئ ورؤية مصابيح سان فرانسيسكو التي لا تزال مضيئة. وبحلول الصباح التالي، أفرغ الاخلاء الاجباري مدينة سانتا روزا، ما عدا منطقة وسط البلدة. وتطلّب الأمر من "جوي"، شريكتي في المسكن، سبع ساعات للوصول الى سان فرانسيسكو برفقة القطّة ميشيل. ووصل اصدقاؤنا بعد ساعتين، وعلى مدى الأيام الخمسة التالية، خيّم عشرة منا داخل منزل أحد الأصدقاء في منطقة مرتفعات بيرنال.
كنا من بين 190 ألف فرد توجهوا الى الجنوب نحو منطقة الخليج، في الوقت الذي كان فيه أربعة آلاف رجل من فرق الاطفاء يكافحون ألسنة اللهب، وتمكنوا من ايقافها شمال سانتا روزا مباشرة، لتتوقف النيران منذ فترة وجيزة عن منطقتنا؛ لكنني على أقل تقدير، تذكرت تمارين إعادة تهدئة النفس!