نصير فليح
قد تكون محاكمة الرئيس الأميركي ترامب انتهت من الناحية القانونية والدستورية، لكنها من الناحية السياسية أبعد ما تكون عن ذلك، فمن تابع ويتابع معطيات المشهد الداخلي الأميركي في الأعوام الماضية، منذ تولي ترامب الرئاسة، سيعرف أن الانشقاق الداخلي الاجتماعي - السياسي داخل الولايات المتحدة من أكبر الانشقاقات التي شهدها هذا البلد في تأريخه.
ومنذ لحظة تولي الرئيس الحالي، كما نذكر، كانت الاصطدامات التي جرت في الشارع الأميركي بين مناصري ترامب ومناهضيه ظاهرة استثنائية غير مألوفة في حالات كهذه. لكن، بالنسبة لنا، أي متابعي الأحداث من خارج أميركا لا من داخلها، لم تكن الكثير من المعطيات متوفرة، وكثير منها تكشّف خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي حكم فيها ترامب.
ومن المعطيات الرئيسة التي اتّضحت، هي طريقة إدارته السياسةَ الخارجية الأميركية، وموقفه من أمور الاقتصاد داخلياً وخارجياً، وخطابه الشعبوي، ومواقفه السلبية من الهجرة والأقليات، والتحول، بعيداً عن المبادئ المعلنة في السياسة الأميركية، باتجاه سياسة أكثر براغماتية ونفعية، تعلن ذلك مباشرة ودونما تردد، بعيداً عن اعتبارات كانت متعارفة، ولو شكلياً، في السياسة الأميركية سواء حكمها الجمهوريون أم الديمقراطيون.
هذا لا يعني أن المبادئ الخارجية المثالية المعلنة في السياسة الأميركية، من قبيل الدفاع عن الحرية والديمقراطية والمبادئ الانسانية، كانت فعلاً موضع تطبيق حقيقي قبل مجيء ترامب، فقد كانت السياسة الأميركية، سواء حكمها الجمهوريون أمِ الديمقراطيون، سياسةً ترعى المصالح الأميركية بالأساس كما هو معروف، وكثير من هذه المصالح ذات طابع عدواني مستند على القوة، ولكن كانت هناك محاولة للموازنة، نسبياً، على الأقل، مع بعض المبادئ المثالية المعلنة. وكل ما فعله ترامب هو أنه كان أكثر وضوحا وصراحة، وأكثر ضرباً بالحائط للمبادئ، وأكثر تركيزاً في خطاباته على المنافع والمصالح.
ما الذي يعنيه هذا من جهة استجابة قسم من الشعب الأميركي لخطابٍ أكثر شعبوية، وأكثر نفعية، وأقل اكتراثاً بالمبادئ الإنسانية؟ إنه يعني أن هناك تحولاً مهماً حدث ويحدث داخل هذا المجتمع جعل شريحة غير قليلة منه أكثر استجابة وتفهماً للخطاب النفعي المصلحي على حساب القيم والمبادئ.
وهذا تحول مهم وكبير، وربما منعطف في التاريخ الأميركي، ولا يمكن فصله عن تطورات العالم الجارية، والمنافسة الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة من بلدان ذات اقتصادات متحدية للاقتصاد الأميركي مثل الصين، فضلاً عن التحديات العسكرية والسياسية التي تواجهها من بلدان مثل
روسيا.
إن تقبّل خطابٍ شعبويّ نفعيّ من شريحة اجتماعية غير قليلة من المجتمع الأميركي يدل، في العمق، على أن الهيمنة الأميركية على العالم هي اليوم أقل اطمئنانا ممّا كانت عليه في العقود الماضية، وهو ما يدفعها إلى سياسة المواجهة والتقليل من شأن الاكثراث بالسلم العالمي، أو من شأن تحديات تحولات المناخ التي باتت تهدد العالم، أو القيم المتعلقة بالانسانية والديمقراطية التي طالما كانت ركائز في خطابها العام.
لكن، من جهة أخرى، فإن الأمور ليست بهذه السهولة، فهذا التحول واجه ويواجه رد فعل قوي من الرافضين له من جزء آخر كبير من المجتمع الأميركي، بات يقوده الديمقراطيون سياسياً، ولكنه، في واقعه الاجتماعي والأخلاقي، أكبر من الديمقراطيين؛ ذلك أن الأسس التي قامت عليها الأمة الاميركية من قبيل الحرية والديمقراطية والإنسانية، تواجه، اليوم، تحدياً غير مسبوق، فمع أن هذه الأسس طالما تراجعت وأهملت في السياسة الفعلية الأميركية على امتداد العقود الماضية، في تدخلاتها العسكرية في أرجاء العالم ومناصرتها دكتاتورياتٍ محضة حفاظاً على مصالحها، فإن الجديد، اليوم، هو تجاوز نوعي لهذه الأسس لا يتجاهل فقط الأسس نفسها، بل حتى الصيغ والاعتبارات الشكلية النسبية التي كان يتم بها مراعاتها في السابق.
ولهذا فإن ما سيجري هذا العام، ولا سيّما الانتخابات الأميركية المقبلة، سيكون، في واقع الأمر، حدثاً حاسماً، وتتمة شعبية لمحاكمة ترامب، لا قانونياً ودستورياً فقط، بل اجتماعياً واخلاقياً، كذلك، وسيترتب على نتائجها الكثير من التبعات سواء للمجتمع الأميركي في الداخل، أو في السياسة الخارجية الأميركية التي تؤثر على مجمل العالم بدرجات متفاوتة.