قبل أيام قلائل مرّت علينا ذكرى الانقلاب الدموي المشؤوم في (8 شباط 1963)، ورُبّ قائل يقول: تلك صفحة انطوت وولت، فلا تنبشوا صفحات التاريخ، ونقول: تلك صفحة مفصلية لا بدَّ من تذكرها على الدوام، لأنها كشفت حقيقةً عن حجم العنف الكامن في بعض النفوس الضعيفة من عَبَدة الآيديولوجيات، كان بإمكان الانقلابيين أن يوفروا فرصة للزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه بالسجن أو النفي خارج البلاد، وهو الذي كان رفيقهم يوماً ما، لكنهم بكل صلافة وعنجهية أبوا إلّا أن يحكموا بالإعدام رمياً بالرصاص.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تحولت البلاد إلى مسلخ بشري بمعنى الكلمة، فالقوميون والبعثيون لم يتخلوا كمتعصبين عن أحقادهم المقيتة لليساريين الذين كانوا محسوبين على الولاء لقاسم، وقيل إن المخابرات الأميركية دعمت الانقلاب مقابل القضاء على قيادات اليسار العراقي، فتحولت أعمدة الكهرباء إلى مشانق تتدلى منها جثث الأبرياء، وتحولت المدارس إلى معتقلات، والصفوف إلى غرف تعذيب، والساحات إلى مقاصل، والقتل على الشبهة، و دهم البيوت الآمنة بالمجان، ولا فرق في القتل بين رجل وامرأة، فقد لعبت ميليشيا الحرس القومي دوراً قذراً في القتل والتعذيب والتنكيل، واستباحت أعراض العراقيات وزرعت الرعب في نفوس الناس.
هي صفحة سوداء لا بدَّ من التذكير بها، في خضم موجة الحنين إلى الماضي، ولم تستقر الأمور إلّا بعد طرد البعثيين وإقصائهم، وكانت فرصة للقوميين أن يتنصلوا من تلك الأعمال الوحشية ويلقوا بها على عاتق رفاق الأمس، كيف لا وهم أنفسهم من خان عبد الكريم قاسم، وجرت الخيانات حتى عودة البعث ثانية، في تموز 1968، ليدخل العراق مراحل دموية متتالية من حروب ومجازر حتى نيسان 2003، ولو كانت أجيالنا الحالية قرأت التاريخ بتمعن لما تمسكت بالعلم الحالي الذي هو علم أولئك الانقلابيين المجرمين، ثم أضاف إليه الطاغية المقبور صدام عبارة "الله أكبر" بعد هزيمته في الكويت، ولو كنا، ساسة وشعباً، قرأنا التاريخ بحكمة لما أعدنا انتاج الميليشيات بصور مختلفة، على أن المراحل السياسية المتقلبة التي مرّ بها العراق لم تتح له فرصة حقيقية للبناء المؤسسي، إذ كان من الأولى بناء مؤسسة عسكرية مهنية مهمتها الدفاع عن الوطن من أي عدوان خارجي مهما كانت طبيعة الحكم، وبناء مؤسسة أمنية داخلية مهمتها حماية أمن المجتمع وتنفيذ القوانين العامة، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي، و بما أننا قد فشلنا في ذلك، كان بالإمكان انتهاز فرصة سقوط النظام، لا سيّما أن النظام البديل يفترض أن يكون ديمقراطياً، وهو من أفضل الأنظمة التي ينتعش وينمو فيها البناء المؤسسي
للدولة.
لكن التحديات كانت أكبر ممّا كنا نحلم به أو نتمناه، فالدولة التي كانت مبتلعة من قبل نظام دكتاتوري سقطت بأيدي قوى المجتمع من أحزاب سياسية وتيارات دينية وعشائر وميليشيات تتعارض مصالحها مع القوة المؤسساتية للدولة، ما لم نقل هي التي أضعفت الدولة وابتلعتها.