بدءاً أود الاشارة الى ان علاقتنا الرفاقية الطيبة مع اخوتنا العثمانيين والايرانيين والانجليز, والتي تمتد الى مئات السنين, لم تذهب سدى, فقد كانوا كرماء معنا الى ابعد الحدود, بدليل انهم حين رحلوا عن بلادنا الواحد بعد الآخر. تركوا لنا الجمل بما حمل, وفي مقدمة ما تركوه ذلك الأرث الضخم من المفردات التي ظل بعضها عالقاً الى اليوم في لهجتنا العامية، فيما عفا الدهر عن البعض الآخر, وليس أدل على ذلك من هذه المفردات القليلة التي سأذكرها على سبيل المثال فقط, منها (خوارده) و(أوتيل) و(خستخانه) و(أدب سز) و(جرخجي) وغيرها اكثر من كثير!!
وبمناسبة الكرم الذي تحلى به رفاقنا الاعزاء. والثروة اللغوية الهائلة التي خلفوها لنا, فقد كنا ايام المدرسة الابتدائية, نحفظ قصيدة تتحدث عن الاخلاق, وتصفها بأنها مثل النبات تنمو سليمة متعافية اذا سُقيت (بماء المكرمات), وكان هذا المصطلح أكبر من طفولتنا التي لا تعرف يومها ماء سوى ماء الشط والحنفية والمطر!
ربما بعد عقد من السنين او يزيد أدركنا المقصود، وبدأنا نعرف العلاقة بين (المكرمات والمكارم) وبين الانسان (الكريم), مثلما أدركنا فعل المفردة ومصدرها, ولا بد ان حاتم الطائي الذي يوصف بأنه (أكرم العرب) قد اصبح من ضمن معلوماتنا الجديدة عن اللغة والتراث... وفي وقت لاحق بعد أتساع منظومتنا الفكرية والثقافية, رفضنا الاكتفاء بالمفهوم السائد لمعنى الكرم على انه سخاء اليد, وبدأنا نردد كلاماً اكثر رقياً, وفي الوقت نفسه اكثر مقبولية, وهو: ان من يجود بدمه مثلاً وهو يدافع عن وطنه وعرضه ومبادئه وماله ومقدساته, يعد أكرم الكرماء وسيدهم على الاطلاق..
أن ما يعنيني هنا, ذلك الجانب المادي المرتبط بسخاء اليد, فقد وضعت الجزيرة العربية اعرافاً لا تحيد عنها, حيث لا ينال صفة (الكريم), او الجواد وهو الوصف الاكثر شيوعاً, الا اذا كان ما ينفقه او يعطيه او يهبه من خالص ماله وحلاله وملكيته, وان لا تكون تلك الاموال قد جاءت اليه عن طريق السرقة او النهب او الغصب، بل ذهبت الاعراف الى ابعد من هذا, فقد نعتوا البدوي الفقير بالكريم اذا كانت بابه مفتوحة لطارق الليل والنهار, يستريح ويأكل ويشرب على الرغم من قلة الزاد وشح الماء, ويحجب هذا النعت عن عين من عيون القبيلة, او امير من أمرائها, او ثري من اثريائها مع انه ينثر الاف الدنانير, ويوزع أثمن العطايا, ولكن على شاعر يمدحه او متملق يتقرب اليه, حتى اذا بلغنا العصر الاموي ثم العباسي خاصة, وصار الخلفاء يغدقون بلا حساب على أتباعهم ومن يودون شراء ذمته او صوته, لم يحظ أي منهم بلقب (الكريم) او الجواد, لان أعراف البادية وقوانينها ظلت سارية, طالما كانت تلك العطايا ليست من جيبه وانما هي من بيت مال المسلمين, بل تواصل سريانها الاخلاقي الى يومنا هذا, فقد عجز صدام حسين عن نيل اللقب برغم إستقتاله المجنون للحصول عليه, لان خزينة الدولة هي التي كانت كريمة, مثلما خاب من جاء بعده وحاول تقليده, فلم ينل أي واحد منهم صفة (خوارده) التي يمكن أن ينالها على سبيل المثال – وما أكثر الامثلة الواقعية- جندي بسيط يساعد عجوزاً على عبور الشارع...