العدالة في مجتمع الرفاهية

آراء 2020/02/15
...

د.محمد فلحي
 
 تشترك الشعارات والمطالب الجماهيرية، التي ترافق، عادةً، التظاهرات والاحتجاجات، في محور رئيس يدعو إلى تحقيق العدل وتطبيق العدالة في المجتمع. وقد سألني أحد طلبتي، وهو من الناشطين الشباب: ما الفرق بين العدل والعدالة؟ سؤال ذكي يعبر عن وعي مبكر وفهم عميق لإشكالية النظام السياسي والاجتماعي والقانوني في أغلب البلدان، ومن بينها العراق، الذي يواجه أزمة خطيرة تدعو الجميع إلى التفكير بعقلانية وحكمة 
 
قلت: يا بني، لا شك أنك قرأت قصة الصبي الذي سرق علبة مناديل ورقية من أحد المحلات التجارية، وحكمت عليه المحكمة بالسجن، وقد طبق عليه القاضي النص القانوني بكلّ دقة وأمانة، وذلك هو (العدل)، فالقانون يصف الناس متساوين، ويضع حدوداً لسلوكهم، ومن يتجاوز تلك الحدود، ويعتدي على حقوق الآخرين، سوف تكون العقوبة بانتظاره لردعه. ولكن ألَم نشعر جميعنا بالتعاطف مع ذلك الصبي الذي تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي قصته، واعتبرناه مظلوماً وليس ظالماً، وفق مبدأ (العدالة) الذي قد يكون غائباً، عند تطبيق القانون، في كثير من الأحيان، فلو توفرت العدالة لكان ذلك الصبي يتلقى دروسه في المدرسة وليس قابعاً في ظلام السجون، ولو حظي هو وأسرته بالعيش الكريم والغذاء والرعاية الاجتماعية والصحية والسكن وغيرها من الاحتياجات والخدمات الضرورية لأصبحت شخصيته محصنة ضد الجريمة، في الأغلب، ومن ثم سوف يكون فرداً مفيداً وفاعلاً
في المجتمع.
 العدل هو جوهر النظام القانوني الذي يحمي المجتمع، لكن العدالة هي الروح الأخلاقية الأسمى من نصوص القانون، التي تدعو إلى ضمان حياة الإنسان وكرامته ومعيشته، وفي ظل متغيرات العصر الحديث تطورت حاجات الناس ورغباتهم بسرعة مذهلة، وتغير مفهوم العدالة إلى ما يمكن أن يسمى(مجتمع الرفاهية)، وأصبحت الكماليات في العصر الغابر هي الضروريات في الوقت العابر، وغدت السلطة صانعة الرفاهية وليست حارسة الحدود وفارضة القيود.
 الحياة في القرن الأخير شهدت قفزات هائلة في العلم والتقنية ووسائل العيش وأساليب التواصل بين البشر، وأصبح العالم (قرية صغيرة) كما وصفه ماكلوهان، قبل أكثر من نصف قرن، بيد أن التغييرات الاجتماعية والنفسية الهائلة بدأت قبل ذلك بقرن من الزمن أو أكثر، من خلال تبلور ملامح مجتمع بشري جديد ومعقد، يتمثل في ظهور المدن المليونية، والسكن العمودي المزدحم، والنقل السريع بالقطارات والسيارات والطائرات، وتوفر التعليم بكافة مراحله، والعمل المنظم في المصانع الضخمة، وتداول السلع والخدمات عبر الحدود، ووفرة النقود، وقلة العمل والنشاط الجسدي، وكثرة الفراغ الزمني، وتعدد فرص التسلية، وتقمص صور نجوم السينما والتلفزيون في الحياة المرفهة والرغبات غير المحدودة، وقد أصبحت بعض الكماليات السابقة من الضروريات الملحة، مثل السكن المستقل، وامتلاك السيارة الصغيرة، وتعددت الكماليات وتوسعت الطموحات أمام الشباب، فأصبح هذا السيل الجارف يندفع بسرعة، ويغير طبيعة المجتمع ويؤثر في العلاقات بين الناس، ومن بينها، بالطبع، العلاقة بين السلطة الحاكمة والجماهير المتطلعة للرفاهية والعدالة، وأصبح مقياس الولاء بين الحاكم والمحكوم، هو إشباع حاجات الناس وتلبية رغباتهم، وإلّا فالبديل لدى أغلبية المجتمع هو النقمة والتذمر والفوضى والتمرد، كلما أتيحت الفرصة وسمحت الظروف، وفي ظل هذا الواقع الجديد، أصبح القرن الماضي (قرن النظريات) لتفسير المجتمع الجديد وفهم معطياته، وهو (قرن الثورات) بامتياز
أيضا.
في مطلع القرن العشرين وصف (غوستاف لوبون) مظاهر السلوك الجماهيري والحشود البشرية، في لحظات التعبير والتغيير، فدرس ظاهرة الرأي العام، وأكد أن ما يحرك الناس في الشارع ليس السلوك العقلاني الفردي، إنّما سلوك (القطيع) حيث تذوب الذات الفردية في الذات الجماعية، ويتحول الحمل الوديع إلى ذئب مفترس، إذا وجد زملاءه من الحملان تصرخ فجأة، بسبب الغضب أو الجوع.
 وفي ما بعد جاء (فرويد) بدراساته المعمقة لعلم نفس الجماهير، فأوضح أن العقل الـ «لا واعي» أو(العقل الباطن) هو المسيطر على سلوك الحشود البشرية، التي قد تنفجر وتعلن الثورة والعصيان والشغب والعنف، لسبب تافه ظاهرياً، لكنه عميق الجذور في وجدان الناس، مثل الشعور بالاضطهاد والتمييز والاحتقار والظلم، عبر فترات زمنية طويلة وحوادث
متراكمة!
عرف العالم زعامات سياسية بارزة، في التاريخ الحديث، حرّكت مشاعر الجماهير، وداعبت الأحلام ،وأصبحت رموزاً متألقة في أذهان الناس، في لحظات الصعود والعطاء والنجاح والأمل، بيد أن صورة القائد (الملاك) تحولت بعد سنوات إلى ملامح (الشيطان) الذي رجمته الجماهير وأسقطته من فوق عرشه، عندما عجز عن تحقيق مطالبهم، أو خان أحلامهم، وتحول من (ثائر) شاب إلى فرعون متغطرس، تحيطه عائلة فاسدة وبطانة سيئة، فلم يجد لدى الناس سوى الرجم والسقوط، والأسماء كثيرة نحن نعيش في عصر مداعبة الرغبات والأحلام وليس تلبية الحاجات وتوفير الخدمات فقط، ولم تعد الخطب الرنانة والقصص المفبركة كافية لإشباع البطون الجائعة أو التناغم مع العقول المتطلعة، وأن من يخذل أحلام المحرومين سوف يخون أمانة الحكم، ولا يجد من بين الناس ولياً ولا نصيراً، فما أصعب الواجب لو كانوا
يعلمون!