التعداد السكاني والانتخابات المبكرة .. لمَن الأسبقية؟

آراء 2020/02/16
...

عبد الزهرة محمد الهنداوي 
 

منذ العام 1997، لم يشهد العراق تعدادا سكانيا شاملا وهذا التعداد الذي نشير إليه لم يكن تعدادا ناجحا، وفقا للمعايير الدولية، ذلك لأنه لم يشمل محافظات إقليم كردستان، كما أن البيانات التي توصل إليها لم تكتمل إلا بعد أكثر من سنتين، ما جعلها تفقد قيمتها التنموية، وبالتالي فإننا نتحدث عن تعداد 1987، بوصفه آخر تعداد شامل شهده العراق، وبحساب الزمن، فإن 33 عاما مرت، لم يشهد البلد خلالها تعدادا سكانيا يطابق المعايير العالمية.

أمّا في ما يتعلق بالانتخابات، فإن تجربتنا باتت غنية بعد الجولات الانتخابية التي مارسها العراقيون، وكانت آخرها انتخابات العام 2018، وهي الانتخابات التي توقف أحد أهم مخارجها (الحكومة) قبل بلوغ النصف الأول من عمرها، فضلا عن الإرباكات والمشكلات الأخرى التي واجهت العملية السياسية برمتها خلال عام واحد من اجرائها، على العكس من الدورات السابقة، التي اكتملت جميعها، وبعضها تجاوز العمر المقرر له، على الرغم من كل ما شابها من مشاكل، لم تكن أبسط من مشاكل الدورة الحالية، التي ربما تختلف عن سابقاتها، ان الشارع العراقي دخل محركا فاعلا ومؤثرا في تغيير مسارات الأحداث، إلى الدرجة التي تمكن من اجبار الحكومة على الاستقالة، واجبار مجلس النواب على القبول بإجراء انتخابات مبكرة، ما زال موعدها غير محدد حتى الآن، بانتظار مباشرة الحكومة الانتقالية مهامها، لتبدأ عملها باتجاه توفير الظروف المناسبة لتحديد الموعد، الذي يبقى مرتبطا بوضع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، التي  أصبح وضعها غير مستقر بعد التغيرات الجذرية التي طالتها، وشملت جميع مفاصلها.
وأحاول من خلال هذه المقاربة، بين التعداد العام للسكان، وبين اجراء الانتخابات المبكرة، أن أشير إلى احتمالية حدوث حالة من التزاحم بين الحدثين الكبيرين اللذين ينتظرهما العراقيون بصبر ولهفة، وقد تكون لهفتهم للتعداد أكثر بحكم مرور أكثر من ثلاثة عقود على آخر تعداد، ومعنى هذا أن (22) مليون عراقي لم يدخلوا سجلات التعداد العام للسكان، وفقا لتعداد 1978، وهناك (16) مليون عراقي وعراقية، لم يدخلوا هذه السجلات، وفقا لتعداد ١٩٩٧، بالمقارنة مع عدد السكان الحالي البالغ (38) مليون نسمة، ومَن يستنطق هذه الأرقام المليونية الكبيرة، فإنه سيدرك بوضوح واقع الحال  والحاجة الماسة إلى وجود بيانات دقيقة وحقيقية عن الواقع الديموغرافي لجعلها مدخلات سليمة لإعداد الخطط التنموية والسياسات الاقتصادية، فضلا عن أهمية تلك المؤشرات السكانية على مستوى المحافظة والقضاء والناحية والقرية، في الاستفادة منها بإجراء الانتخابات، لا سيّما بعد المتغيرات الهائلة والتوسع الكبير الذي شهده الواقع الإداري والاجتماعي في العراق، إذ نتحدث اليوم عن (168) قضاء في عموم العراق، الكثير منها تم استحداثه بعد العام 2003، فضلا عن أعداد النواحي والقرى التي هي الأخرى تضاعفت أعدادها بنحو لافت خلال السنوات الأخيرة، وهذه ليست مثلبة، إنّما هي مسألة طبيعية في ظل التزايد السكاني، إذ يعد العراق من البلدان الأعلى نموًا سكانيًا في العالم، بنسبة زيادة سنوية تقترب من (3 %)، ووفقًا لهذه النسبة العالية فإن السكان يتضاعفون مرة واحدة كل ربع قرن من الزمان، وهذه الزيادة المضطردة تزيد من أهمية إجراء التعداد العام للسكان، الذي ينبغي أن يجري مرة واحدة كل عشر سنوات، فما بالنا ونحن نتحدث عن 33 عامًا؟ ومن هنا أعود إلى احتمالية حدوث التزاحم بين الحدثين خلال العام الحالي إذا ما قررت الحكومة إجراء الانتخابات قبل نهاية 2020، ذلك لأن الحكومة المستقيلة كانت قد قررت، في النصف الأول من العام الماضي، أن تجري التعداد العام للسكان قبل نهاية 2020، وقرارها هذا جاء استمرارا  لقرار الحكومة التي سبقتها، عندما قرر  المجلس الأعلى للسكان برئاسة الدكتور حيدر العبادي، العام 2017، اجراء التعداد في 2020، ومنذ ذلك التاريخ والجهات المعنية المتمثلة بوزارة التخطيط والوزارات ذات الصلة والحكومات المحلية تواصل استعداداتها العملية، وقد قطعوا شوطا جيدا باستكمال الكثير من الاستحكامات والإجراءات المهمة، إذ من المقرر أن يتم إجراء التعداد بصيغة ألكترونية في الشهر العاشر أو الحادي عشر من السنة الحالية، بمعنى أن الموعد محدد قبل أكثر من سنتين. في المقابل، إن موعدا لإجراء الانتخابات المبكرة لم يحدد بعد، ولأن كلا الحدثين يحتاج إلى حشد كل الجهود والإمكانات الوطنية لتنفيذه، فإن إجراءهما، في الفترة ذاتها، سيؤدي إلى تشتيت تلك الجهود، ما قد ينعكس سلبا على المشروعين، وربما يؤدي إلى فشلهما كليهما، وهذه أخطر نتيجة قد نواجهها في تاريخ العراق الراهن، فلا يمكننا أن نفرط بالانتخابات المبكرة، التي تعد الأولوية الأولى ضمن مطالب التظاهرات الاحتجاجية، كما أن الوضع السياسي في البلد يعاني الكثير من الاحتقان، وهو بحاجة إلى تنفيس حقيقي لا يتحقق إلّا من خلال اجراء انتخابات حقيقية يشارك فيها العراقيون وفق فهم حقيقي لممارسة هذا الحق الدستوري، وفي الوقت ذاته، فإن التعداد العام للسكان لا يمكن التفريط به أيضا، في ظل وضع تنموي متهالك يحتاج إلى بيانات حقيقية، يضاف إلى ذلك حجم الاستعدادات التي بُذلت لحد الآن، مع وجود توافق بشأن المشروع، يعززه الدعم الجيد من قبل منظمات الأمم المتحدة المعنية.
لذلك فإن فك الاشتباك الزماني المحتمل بين هذين المرتكزين، هو أن يصار إلى إجراء الانتخابات المبكرة في منتصف العام المقبل 2021، والإبقاء على التعداد العام للسكان على العام الحالي، لضمان نجاح الاثنين، فكلاهما مهم لحاضر ومستقبل العراق.