هل أخطأت الولايات المتحدة بتحديد الفاعل؟

بانوراما 2020/02/16
...


اليسا روبن  ترجمة: بهاء سلمان
 
اجتازت الشاحنة الصغيرة البيضاء اللون الطريق الصحراوي وتوغلت في طريق ترابي، وتوقفت بالقرب من أحد المستنقعات. وسريعا ما كان هناك وميض وصوت هائل مع انطلاق أول الصواريخ من السيارة متجهة نحو قاعدة كيوان العسكرية. أصابت الصواريخ ستة أفراد وقتلت متعاقدا أميركي الجنسية، مطلقة العنان لسلسلة من أحداث متتالية أوصلت كلا من الولايات المتحدة وايران على حافة الحرب. حمّل الأميركان مسؤولية الهجوم على إحدى فصائل الحشد الشعبي العراقية، فقامت بقصف خمسة مواقع تابعة لذلك الفصيل. بعدها، هجم عراقيون غاضبون على السفارة الأميركية، لتغتال الولايات المتحدة على اثرها جنرالا ايرانيا بارزا، لترد ايران على ذلك باطلاقها الصواريخ على القوات الأميركية، وتسقط عن طريق الخطأ طائرة ركاب أوكرانية، متسببة بمقتل 176 مسافرا.
غير أن مسؤولي الاستخبارات العسكرية العراقية ساورتهم شكوك حول الجهة التي أطلقت الصواريخ، مشيرين الى عدم ترجيحهم تنفيذ فصيل الحشد الذي وضعت الولايات المتحدة المسؤولية عليه، وهو تنظيم كتائب حزب الله. 
ويتحدث المسؤولون العراقيون عن عدم امتلاكهم لدليل مباشر يربط هجوم قاعدة K1، الذي وقع أواخر أيام العام 2019، بمجموعة محددة. ويصر المسؤولون الأميركان على امتلاكهم دليلا قويا يؤيد تنفيذ كتائب حزب الله للهجوم، رغم عدم اعلانه أمام الملأ. 
وتسند السلطات العراقية شكوكها الى دليل ظرفي وخبرة طويلة في المنطقة التي انطلق منها الهجوم، فقد أطلقت الصواريخ من منطقة تابعة لمحافظة كركوك ومعروفة بهجمات تشنها عصابات “داعش” الاجرامية، جعلت المنطقة أراضي معادية لفصائل الحشد المختلفة. ولا يوجد حضور لكتائب حزب الله ضمن محافظة كركوك منذ سنة 2014. وكان الدواعش قد نفذوا ثلاثة اعتداءات بفترة قريبة نسبيا من القاعدة خلال الأيام العشرة السابقة لهجوم K1. 
وأرسلت الاستخبارات العراقية تقارير الى الأميركان خلال تشرين الثاني وكانون الأول الماضيان، تحذر من نيّة تنظيم “داعش” استهداف K1، وهي قاعدة جوية عراقية داخل كركوك، تستخدمها أيضا القوات الأميركية.
 
دلائل متواترة
تم العثور على سيارة النقل المتروكة على مسافة نحو ثلاثمئة متر عن موقع نفذ فيه الدواعش اعداما بحق خمسة رعاة للجاموس ينتمون للطائفة الشيعية، وتشير كل هذه الحقائق الى تورط “داعش” بالهجوم، بحسب المسؤولين العراقيين. يقول مسؤول الاستخبارات العراقية في القاعدة: “إن كل المؤشرات تؤكد مسؤولية “داعش” عن الهجوم، وقد تحدثنا عن الحوادث الثلاثة التي وقعت في المنطقة بأيام قليلة قبل الهجوم، ولدينا معرفة بكيفية تحرك الدواعش؛ ونحن كقوات عراقية لا نستطيع القدوم الى المنطقة ما لم نمتلك قوة كبيرة لأنها منطقة غير آمنة، فكيف يمكن لأحد ما لا يعرف المنطقة القدوم اليها واختيار ذلك الموضع النائي واطلاق الصواريخ؟”
من جهتها، نفت كتائب حزب الله مسؤوليتها عن الهجوم، ولم تعلن أي جهة عن تنفيذها له. مع ذلك، يزعم المسؤولون الأميركان امتلاكهم خيوطا استخبارية تشير الى تورط الكتائب بالهجوم. 
وقالوا إن المحققين الأميركان فحصوا سيارة النقل الصغيرة وأنها كشفت دليلا ساعد في نسب الهجوم للكتائب، لكنهم لم يذكروا ما يوثق علاقة الشاحنة بالمجموعة العراقية، ويشير أحد المسؤولين الأميركان الى تتبعهم لاتصالات تظهر تورّط الكتائب.ويتحدث المسؤولون الأميركان عن هجومات صاروخية خلال تشرين الثاني وكانون الأول ضد قواعد عراقية تتواجد فيها قوات أميركية أو قوات التحالف، وأنهم واثقون بشكل كبير من أن أكثر من نصف تلك الهجمات، وبضمنها الهجوم الأخير قد نفذت من قبل الكتائب. ولم تفصح الولايات المتحدة علانية عن معلوماتها الاستخبارية، ولم تطلع الجانب العراقي عليها كذلك.
يقول السكرتير العسكري للقائد العام للقوات المسلحة العراقية: “طلبنا من الأميركان اطلاعنا على أية معلومات وأدلة تتوفر لديهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك مطلقا.”
ضعف تعاون أميركي
أما مدير الاستخبارات العسكرية ومكافحة الارهاب، فقد أشار الى عدم استشارة الولايات المتحدة للعراق قبل تنفيذها لهجوم يوم 29 كانون الأول الماضي ضد مقرات الحشد في القائم (الذي قتل وأصاب العشرات منهم): “لم يطلب الجانب الأميركي تقييمنا لما جرى في كركوك، ولم يطلعونا على ما لديهم من معلومات؛ وهم عادة ما يقدمون على فعل 
ذلك.”
وبرغم حقيقة عمل القوات الأميركية والعراقية سوية لمكافحة الارهاب، يقول مسؤولو الاستخبارات والدفاع الأميركية بعدم اطلاعهم دائما الجانب العراقي على المعلومات الاستخبارية الحساسة، ويقول مسؤولو الاستخبارات العراقية بصعوبة تقييم التأكيدات الأميركية من دون حصول لقاء مع الاستخبارات الاميركية؛ مؤكدين عدم مشاهدتهم لأي شيء غير اعتيادي يخص الشاحنة، أو الصواريخ المستعملة في هجوم 27 كانون الأول تجعلهم يربطون الهجوم بكتائب حزب الله، فالسيارة كانت عادية، ما عدا تسوية حوضها لكي يتلاءم مع منصة اطلاق الصواريخ، التي كانت من نوع كاتيوشا 107 ملميترات، وهي صواريخ يستخدمها الجميع في العراق.
وأشار العميد مسؤول الاستخبارات العراقية في القاعدة الى تسليمه السيارة الى الأميركان، الذين أزالوا أية شظايا للصواريخ وصاروخا لم ينفجر في الجانب العراقي من القاعدة، ومن ثم صار من الصعب تماما على العراقيين اجراء أي تحقيق جنائي عميق بمفردهم. ومن التناقضات التي تثير شكوكا استخباراتية هو عدد الصواريخ المطلقة، فقد تحدث الأميركان عن اطلاق 31 صاروخا، أما شهود العيان من العراقيين، وبضمنهم مسؤول الاستخبارات العراقي الذي كان أول من وصل الى الشاحنة، فقد عدوا 11 صاروخا. ويعتقد بعض الضباط العراقيين العاملين في قاعدة K1 باحتمال وصول عدد الصواريخ الى 16، لكن ليس 31 بكل تأكيد.
 
شاهد عيان
ويقول المزارع علي فرحان، مختار قرية نيبتس الصغيرة التي تبعد نحو أربعة أميال عن كيوان، وتقريبا ميل واحد عن موقع الاطلاق، إن الصدفة قادته للخروج من منزله للتحدث مع شقيقه بشأن حراثة الأرض في الصباح التالي ليشاهد شاحنة صغيرة قادمة من الجنوب الغربي، وهي مناطق معروفة بايوائها لعناصر “داعش”. دخلت الشاحنة في طريق ترابي، وذهبت الى مسافة نصف ميل، لتتوقف وتطفئ مصابيحها. 
وبعد نحو 35 دقيقة، نحو الساعة السابعة والثلث مساء، رأى أول قوس صاروخي ينطلق الى السماء. كذلك فعل مسؤول الاستخبارات العراقي، الذي استدعاه المختار طلبا للنجدة، والذي كان يقود بأقصى سرعة يتمكن منها على الطريق الترابي للوصول الى الشاحنة وايقاف اطلاق الصواريخ: “اتصلت على الفور بالقيادات وحذرت من بدء اطلاق الصواريخ صوب قاعدتنا.”
وبوصوله الى الشاحنة، اكتشف أن الهجوم ربما كان يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، فقد كانت هناك ثلاثة صفوف لاطلاق الصواريخ، كل واحدة تحوي على 12 صاروخا، لكن ظهر ان أكثر من نصفها بقليل كانت معبئة بالصواريخ، وأربعة منها لم تنطلق. 
هذا معناه أن 14 صاروخا أطلقت كحد أعلى. لم يكن الهجوم غير متوقعا، ففي السادس من تشرين الثاني، أرسل مجلس الأمن الوطني العراقي تقريرا الى الأميركان، ينوّه فيه الى أنه منذ تشرين الأول الماضي، الى سعي ارهابيي “داعش” لمهاجمة قاعدة K1 في منطقة كركوك بنيران غير مباشرة، في اشارة الى صورايخ الكاتيوشا. 
وتشير رسالة استخباراتية ارسلت الى مسؤولي الولايات المتحدة يوم 25 كانون الأول الماضي بمحاولة التنظيم الارهابي كسب موطئ قدم شمال غربي K1. وقال العميد مسؤول الاستخبارت العراقي في القاعدة أنه حذر الأميركان حول احتمالية حصول هجوم صاروخي على K1 في وقت ظهيرة يوم الاعتداء، حينما طلب العراقيون من القادة الأميركيين داخل القاعدة اجراء مشاورات أمنية خلال دعوتهم لوجبة غداء.
 
طلبات مرفوضة
أما العقيد طالب مظلوم، من الشرطة الاتحادية، فيقول أنه شدد على الأميركان بابقاء منطاد الاستطلاع في الجو لمنع حصول الهجوم، لكن المنطاد انزل ذلك اليوم لأغراض الصيانة، حسب قوله. وتحدث مسؤول الاستخبارت العراقي عن سقوط ثلاثة صواريخ على الجانب العراقي من القاعدة، وسبعة ضربت الجانب الأميركي، سقط أحدها على أقل تقدير على مخزن للذخيرة مسببا انفجارا كبيرا. وبخلاف غالبية الهجمات على الأهداف العراقية والأميركية، خلّف هذا الهجوم خسائر، فقد أصيب أربعة جنود أميركان وفردين من أفراد الشرطة الاتحادية العراقية. أما المتعاقد المدني الذي لقى حتفه، فهو أميركي الجنسية عراقي المولد اسمه نورس وليد حامدـ، وكان يعمل مترجما لصالح الأميركان.
أما قائد الجانب العراقي من القاعدة، (ضابط برتبة عميد) فقد أشار الى أن الاستنتاج المنطقي لما جرى يؤكد مسؤولية “داعش” عن الهجوم: “القرى المجاورة للقاعدة تتألف من سكان لدى بعضهم تعاطف مع “داعش”، فلماذا نهرع الى اتهام الكتائب أو غيرها؟” وكان لدى تنظيم داعش الارهابي نشاطات متزايدة في هذا الجزء من محافظة كركوك طيلة العام الماضي، منفذا هجومات يومية تقريبا بوضع عبوات ناسفة على جوانب الطرق وكمائن مستخدما أسلحة خفيفة. 
وبعد ستة أيام من هجوم K1، أخبر وزير الدفاع الأميركي مارك اسبير المراسلين بتعرّض “القوات الأميركية الموجودة في قاعدة بالقرب من كركوك الى اعتداء يوم الجمعة الماضي من قبل الكتائب”.
 
رد فعل 
وعندما أخبر المسؤولون الأميركان رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبد المهدي أنهم على وشك قصف قواعد كتائب حزب الله كرد انتقامي، أكد المسؤولون العراقيون نفيهم لأي وجود لهذه المجموعة في محافظة كركوك منذ سنوات، وكان آخر نشاط لهم في تلك المنطقة يعود الى سنة 2014 خلال الأيام الأولى للقتال ضد “داعش”.
ونفى المتحدث باسم كتائب حزب الله، محمد موحي، مسؤولية جماعته عن الهجوم على كيوان، مؤكدا بقاء مقاتليه ضمن محافظة كركوك لمدة ثمانين يوما فقط خلال سنة 2014؛ وقال: إن كان لدى الأميركان دليل على تنفيذ الكتائب للهجوم فينبغي عليهم الافصاح عنه. أدى الهجوم الأميركي على الكتائب يوم الثاني من كانون الثاني الماضي، وما تلاه بعد يوم من هجوم بطائرات مسيّرة قتلت قادة عسكريين ايرانيين وعراقيين بالقرب من مطار بغداد، الى نشوب غضب عارم ضد الوجود الأميركي في العراق، وتصويت البرلمان العراقي بطرد القوات الأميركية. ولدى الولايات المتحدة أكثر من خمسة آلاف جندي في العراق، تشمل مهماتهم الأساسية محاربة تنظيم “داعش” وتدريب القوات العراقية. ولم تطلب الحكومة العراقية لغاية الآن من الأميركان المغادرة بشكل رسمي، لكن المسؤولين من كلا الجانبين يشيرون الى حصول توتر في العلاقات بين البلدين. ويشير المسؤولون العراقيون الى أن العديد من الأسئلة ظلت بلا اجابات حول الجهة المسؤولة عن هجوم K1. ويعلق عبد الحسين الهنين، مستشار عبد المهدي: “لم يتم حتى الآن تأكيد هوية الجهة المسؤولة عن الهجوم. هناك شكوك محددة، وأنا لا أزعم معرفة كل شيء، الا أنه من الممكن أن تكون “داعش” أو حزب البعث، فالوضع معقّد بالفعل في العراق.”