د. سعد العبيدي
يقرّ العالم بالحبّ، يحتفلون به، يكتبون له ولرموزه الشعرَ، يتبادلون في ما بينهم أحاديث معبرة عن وجوده طول العمر. هكذا هو الإنسان أينما وجد، وفي أي مكان يكون، أوروبيا كان أو عراقيا، كوّن له عالماً مليئاً بالحب. لكن الإنسان، وبسبب طبيعة تكوينه ونظامه الغرائزي، كوّن له، في المقابل، عوالمَ مليئة بالغلّ والكره والعداوة، وقد أدركت المجتمعات المتحضرة أثر هذه العوامل على سعادة الإنسان ورضاه، وعلى أمن المجتمعات، فاتجهت نحو تقليل العداوة بالتدريج بالتأسيس للتسامح كنظام قائم على أعمدة قوامها الود والتقدير والاحترام والقبول بالآخر، مستندين على حقيقة نفسية تتعلق بحاجة الإنسان إلى أن يُحِبّ ويُحَبَّ كي تستمر مسيرة الحياة أكثر متعةً وأقل اضطراباً.
لكننا، في العراق، وفي هذا الزمن على وجه التحديد، الذي بتنا ندرك فيه أهمية الحب البيني، أي بين الزوج وزوجته، أو الحبيب وحبيبته، أو الأب وابنته، نسينا، أو تغافلنا الحاجة الماسّة لإعادة بوصلة الحب المجتمعي (التسامح)، إعادتها إلى دائرة الفعل الصحيح كي ننجو من هذا الغلّ الذي يحيط بنا من كل جانب، ولإعادة هذه البوصلة الضرورية لا بد من أن نبدأ خطوة أولى في موضوع التسامح، نتسامح بداية مع أنفسنا على ما فعلناه بها، وبالقريبين منها طوال هذه الحياة المليئة بالعثرات، ومنها نتجه الى خارجها لنبدأ خطوات أخرى، مسيرة تسامح أخرى مع القريبين منا، نزيل درن المشاعر العدائية التي علقت في عقولنا تجاه الآخر، نعيش من دونها، نتسامح مع جارٍ أخطأ يوماً بحقنا، مع ابن المحلّة، لتكبر دائرة التسامح بين الطوائف والأقوام التي لم تهدأ تحركاتها في إعلاء الشأن الخاص والتقليل من شأن الآخر بسلاح حقد أعمى، بين العشائر والعشائر وهي تتصارع في ما بينها مغلفة سلوك تصارعها بمشاعر العدوان القاتلة، بين الكتل والأحزاب وأهل السياسة الذين دفعت خلافاتهم وتناحرهم بالعراق إلى هاوية يصعب الخروج منها من دون تقديم المزيد من الخسائر، بين المتظاهرين السلميين وبين خصومهم الحكوميين في سوح التظاهر، بعد أن أصبحت هذه السوح، أو بعضها، ميادين قتل واغتيال واختطاف وتشويه، تستخدم فيها العصا والحجارة والسكين، نستبدلها بالتسامح وبمشاعر يسقط فيها الجميع من حساباتهم استخدام السلاح والعنف والحرق الذي يزيد من الكره والحقد ويضاعف مشاعر العدوان.
إن سفينة العراق التي امتلأت بشحنات الحقد والعداء لا يمكنها الاستمرار في ابحارها سالمة بهذه الشحنات السلبية، ولا يمكنها الوصول الى الشاطئ المطلوب الوصول إليه من دون المزيد من الخسائر التي يزداد كمّها في الساعة واليوم بسبب فاعلية الحقد الموجود، خاصة وأنها سلكت في ابحارها، أو اجبرت على سلوك مسلك تتلاطم طواله الأمواج، وهي، على هذا، ولكي تصل إلى مبتغاها بسلام، يحتاج ركابها إلى صفاء النوايا وتبادل التقدير والاحترام، والتسامح في ما جرى ويجري، أملاً في العيش
بسلام.