قبل العام 2003، كان عدد موظفي الدولة العراقية لا يتجاوز الـ (600) ألف موظف في جميع الوزارات، وكان العراق، في تلك الفترة، لا سيّما في عقد التسعينيّات، يشهد عزوفا غير مسبوق عن الانخراط في الوظيفة الحكومية، نتيجة قلّة الرواتب التي لم تكن تتجاوز الـ (3) آلاف دينار، في وقت كان سعر طبقة البيض، مثلا، (4) آلاف دينار.
يومها، كان الموظف الحكومي موضع تندر وتهكم من قبل الآخرين، حتى أن بعضهم كان يصفه بالساحر العجيب، فكيف يكون بإمكانه أن يسيّر شؤون حياته بـ (3) آلاف دينار فقط! لذلك انتشرت مظاهر الرشوة ودبّ الفساد في مفاصل كثيرة، وإن كان بنحوٍ
خفيّ.
ولكن بعد التغيير الذي شهده العراق العام 2003، انفتحت آفاق كثيرة، وما زال الموظفون يتذكرون الأشهر الأولى من ذلك العام عندما تسلموا رواتبهم بالدولار الأميركي، وقد تسلم كل منهم ما لا يقل عن (200) دولار، ولنا أن نتصور هذا الرقم الفلكي مقابل دولارين فقط، كان مقدار رواتبهم قبل
التغيير.
تحسن الرواتب هذا، فتح آفاقا رحبة للحياة، فقد بدأ الموظفون يحيون حياة مختلفة، ويلبون حاجات كثيرة كانت مؤجلة لأعوام طويلة، وهنا اختلفت نظرة المجتمع للموظف والوظيفة الحكومية، وبدلا من حالة العزوف السابقة، دارت (الكاميرا) إلى الخلف بـ (180درجة)، لنشاهد ذلك الإقبال غير المسبوق على التوظيف، فقد باتت الوظيفة حلما يراود الشباب، مقابل ذلك، كانت السياسة الحكومية قدِ اعتمدت مبدأ المزيد والمزيد من تضمين الموازنات السنوية مئات الآلاف من الدرجات الوظيفية، وبما لا يقل عن (200) ألف درجة وظيفية سنويا، وما هي إلّا سنوات قلائل حتى تضاعفت أعداد موظفي الدولة إلى ثلاثة او أربعة أضعافها عمّا كانت عليه قبل
2003.
وممّا لا شك فيه أن هذه السياسة أسهمت في خفض نسب البطالة إلى أكثر من (50 بالمئة) خلال سنوات قليلة، ففي العام 2007 كانت النسبة نحو (30 بالمئة) انخفضت إلى (15 بالمئة) العام 2010، ثم إلى (10 بالمئة) العام 2013. ولكن مقابل ذلك، ثمة آثار سلبية نتجت عن هذه السياسة، ومن ذلك، مثلا، انخفاض نسبة انتاجية الموظف العراقي إلى أدنى مستوياتها، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن انتاجية الموظف في اليوم الواحد لا تتجاوز الـ (20) دقيقة من أصل (8) ساعات عمل!.
ليس هذا حسب، إنّما تسبب هذا التضخم الهائل في الجسد الحكومي إلى ثقل وبطء الإجراءات والحركة، وازدادت مستويات البيروقراطية والروتين في مؤسسات الدولة بنحو كبير، وعندما نتحدث عن الجانب التنموي في سياسة التوظيف، فإننا سنجد أن كتلة نقدية هائلة ليس فيها أي مخرج تنموي، يتم صرفها سنويا، من أجل تأمين الإنفاق الاستهلاكي والتشغيلي، الذي تمثل الرواتب والأجور المساحة الأوسع في هذا الجانب، فعندما نتحدث، مثلا، عن قرابة (59) ترليون دينار هو مجموع الرواتب والأجور لعام 2018، فلنا أن نتصور قوة وتأثير هذه الكتلة النقدية الهائلة لو أنفقت في مجال التنمية، إلّا أنّها تبقى من دون مخرجات تنموية لكون انفاقها ينحصر في تأمين الحاجات اليومية، من مأكل وملبس ومشرب ومتطلبات أخرى.
قد تكون الحال قد اختلف كثيرا بعد العام 2014، فقد قررت الحكومات إيقاف التعيين جراء الظروف الاقتصادية الصعبة، الأمر الذي تسبب في رفع معدلات البطالة إلى نحو (14 بالمئة)، ولهذا كان أحد مطالب المتظاهرين في كل التظاهرات التي شهدها العراق منذ العام 2015 وما تلاها، وقبل أن تتحول الى مطالبات سياسية، هو إطلاق التعيينات لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الخريجين الذين يدخلون الى سوق العمل سنويا، والذين لا تقل أعدادهم عن (150) ألف خريج في كل عام، يضاف لهم الشباب من غير الخريجين الذين يبلغون سن القدرة على العمل (15)
سنة .
وإزاء هذه الضغوط، وخصوصا في ظل التظاهرات الحاشدة التي يشهدها العراق منذ الأول من تشرين الأول، سعى مجلس النواب والحكومة إلى إيجاد حلول ومعالجات، يمكن من خلالها توفير فرص وظيفية جديدة للشباب، فكان نتاج ذلك تعديل قانون التقاعد، هذا التعديل سيوفر ما لا يقل عن (200) ألف درجة وظيفية العام 2020، وربما اقل من ربع هذا العدد العام 2021، ثم تبدأ الأعداد تتناقص بعد عامين أو اكثر، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ هل سنكون على موعد مع تظاهرات جديدة ينتج عنها تخفيض سن التقاعد الى 35 سنة مثلا، لاتاحة المزيد من فرص العمل؟! سيبقى السؤال يتردد صداه دائما، يرافق ذلك، أن كل الإيرادات التي يحصل عليها البلد من النفط ستبقى من دون مخرجات تنموية، لأننا نبيع النفط لنأكل، أمّا البناء والتنمية ، فسيبقيان رهن الانتظار، ريثما تتغير الحال، وتصبح لدينا موارد أخرى في الزراعة والسياحة والصناعة والضرائب وغيرها، وحتى ذلك الحين الذي قد يطول انتظاره، ما الذي ينبغي القيام به، لحل مشكلة متنامية من هذا النوع؟
الحل، بتقديري، هو خلق قطاع خاص عراقي جريء وممكن، والتمكين هنا المقصود به تقنين هذا القطاع من خلال حزمة من الاجراءات والقوانين التي تنظم العمل، وتضمن حقوق العاملين فيه أسوة بنظرائهم من موظفي القطاع العام، لأن أحد أهم أسباب العزوف عن العمل في
القطاع الخاص، على الرغم من أن رواتبه أفضل، هو غياب الضمانات، والعامل فيه يبقى عرضة لإنهاء خدماته في أيّة لحظة قد يختلف فيها مع رب العمل، فإذا توفرت مثل هذه الضمانات، وشعر الموظف بالاطمئنان والاستقرار، فعند ذاك يتغير المشهد، وتدور (الكاميرا) دورة جديدة، لنشاهد حجم الإقبال على القطاع الخاص، وقطعا ستكون هناك هجرة عكسية نحو هذا القطاع من نظيره القطاع
العام.
ليس هذا حسب، إنّما نحتاج الى فتح آفاق واسعة للاستثمار الأجنبي في جميع قطاعات التنمية، لتحقيق نهضة تنموية حقيقية، ويقينا إن العراق يعد بيئة بكر للاستثمار في مختلف المجالات، فإن تحقيق مثل هذا المناخ الاستثماري الإيجابي، سيوفر ربما الملايين من فرص العمل المعتبرة، وعند ذاك سنكون أمام أزمة عمالة، قد نضطر إزاءها إلى استيراد الأيدي العاملة من الخارج لسد النقص
الشديد .
إنَّ ما أتحدث به هنا ليس أضغاث أحلام، كما قد يتصور بعضهم، إنّما هو علاج شافٍ وناجع للخلل البنيوي الذي نعانيه منذ عقود ليست بالقصيرة، فإن لم نخرج من هذه الشرنقة، فإن التنمية تبقى متهالكة، وتبقى مشكلاتنا تتفاقم بمرور الزمن في ظل تزايد سكاني مضطرد يصل إلى مليون إنسان سنوياً.