هكذا ستبدو الحرب في العقد ما بعد2020

بانوراما 2020/02/17
...

ديفد أكس 
ترجمة: انيس الصفار                                             
في يوم 11 كانون الاول من العام الماضي مرر مجلس النواب في الكونغرس الأميركي "قانون تفويض الدفاع القومي" نسخة العام 2020 مفسحاً الطريق بذلك أمام مجلس الشيوخ لإقرار الإجراء. وبتوقيع الرئيس ترامب هذا القانون فسوف يتوجه مبلغ يدور له الرأس، هو 740 مليار دولار، ليصب في حسابات البنتاغون. هذا الرقم هو أكبر ميزانية عسكرية تفوق ميزانية أية دولة أخرى بمسافة شاسعة. فالولايات المتحدة تزهو بقواتها المسلحة التي تفوق الصين، صاحبة الإنفاق رقم 2، بضعفين وتفوق بأكثر من عشرة أضعاف روسيا ذات التسلسل 6 من حيث الإنفاق.
لكن هذا الانفاق كله، والكميات الهائلة من الاسلحة المتطورة تكنولوجياً التي تشرى بتلك الأموال، إنما تعدّ البنتاغون وتجهزه للحرب الخطأ، كما تقول لجنة من الخبراء المتخصصين في هذا المجال. فأميركا تتأهب لدخول عقد ما بعد 2020 وهي تعاني من تخلف ستراتيجي، وقد يتطلب الأمر وقوع حدث مزلزل قبل أن يفيق القادة الأميركيون الى الواقع ويغيروا نمط تفكيرهم.
بعد أربع سنوات من استيلاء القوات الروسية "المقنّعة" من الداخل على شبه جزيرة القرم الواقعة ضمن المنطقة الأوكرانية، وبعد 18 عاماً على انطلاق حملتي غزو بقيادة الولايات المتحدة عقب أحداث 11 أيلول، وبعد 30 عاماً من سقوط جدار برلين الذي أعلن نهاية حقبة الحرب الباردة، ما زالت الولايات المتحدة تتجهز وتتزود بالمعدات والوسائل لخوض حرب قائمة على اساس: الطائرة بمواجهة الطائرة والسفينة بمواجهة السفينة والدبابة بمواجهة الدبابة في وجه قوى منافسة مفترض بها أن تتقيد هي الأخرى بالمنظور نفسه وتعمل وفقاً له.
 
13 ألف طائرة
بيد أن الدولتين اللتين تشخصهما الولايات المتحدة باعتبارهما أخطر تهديدين لها، وهما الصين وروسيا، قد أوضحتا بجلاء شديد وبلا أدنى لبس أنهما لا تنويان خوض الحرب بهذه الوسائل، بل سوف تعمدان بدلاً من ذلك الى حملات شبحية أسلحتها الحقيقية هي المال والمعلومات وميادينها شبكات الانترنت.
الولايات المتحدة من جانبها ليست مستعدة بعد للدفاع أمام هذا النوع من الهجمات. يقول "شون مكفيت" وهو بروفيسور في الستراتيجيات من جامعة جورجتاون ومؤلف كتاب "القواعد الجديدة في الحرب": "نحن نعد أنفسنا للنوع الخطأ من الحروب."
بالرغم من النمو الاقتصادي الانفجاري الذي شهدته الصين على مدى العقدين الماضيين، وانبعاث روسيا تحت قيادة "فلاديمير بوتين"، بقيت الولايات المتحدة على نهجها في نشر قوات عسكرية فاقت كل ما نشرته تلك
الدولتان. 
فالبنتاغون يدير اكثر من 13 ألف طائرة من بينها مئات المقاتلات الشبح، تقابلها في ذلك على الجانب الروسي أربعة آلاف طائرة فقط (مع عدم نشر أي عدد من المقاتلات الشبح على الصعيد العملياتي) وعلى الجانب الصيني ثلاثة آلاف طائرة منها 15 مقاتلة فقط من نوع الشبح.
الاسطول البحري الأميركي هو الأكبر في العالم بمقياس الأطنان، وهو معيار مفيد عند اجراء مقارنة اجمالية بين القدرات البحرية المتنافسة. فالسفن الحربية الأميركية، ومن ضمنها 20 حاملة طائرات من الفئتين الكبيرة والصغيرة، تبلغ ازاحتها الاجمالية نحو 4,6 ملايين طن من الماء، في حين تبلغ إزاحة الاسطول الصيني الذي يتضمن حاملتي طائرات من الفئة المتوسطة 1,8 مليون طن، وتبلغ ازاحة السفن الروسية 1,6 مليون طن. اما السفينة الوحيدة ذات السطح المنبسط التي تمتلكها موسكو، وهي السفينة العجوز "الأدميرال كوزنيتوف"، فقد شبت فيها النيران اثناء اجراء إصلاحات لها منتصف شهر كانون الأول من العام
الماضي.
في مجال الحرب البرية تمتلك الولايات المتحدة قدرة على نشر أرفع المركبات المدرعة تعقيداً وتطوراً على وجه كوكبنا بالاضافة الى اكبر اساطيل النقل وأسراب المروحيات الهجومية. وفي مجال الفضاء تتفوق أميركا بأقمارها الاصطناعية، التي يبلغ عددها نحو 900 قمر، على الاقمار الصينية بنسبة ثلاثة الى واحد، وعلى الروسية بنسبة ستة الى واحد. إلا أن تفوق الولايات المتحدة بالطائرات والسفن والدبابات والاقمار الاصطناعية لم يكن يوماً أدنى أهمية مما هو الان، والسبب هو أن اعظم خصوم أميركا قد توصلوا الى اساليب لخوض المعارك لا تستدعي حدوث مجابهات متفجرة وسط البحر ولا اشتباكات هائلة في السماء او معارك دبابات عبر الاراضي الشاسعة. 
 
روسيا والصين
لقد نجح الروس في بلوغ درجة من الكمال في تطوير فن استنزاف العدو سياسياً قبل أن يزجوا بقواتهم الخاصة المموهة خلسة، وفي النهاية يأتي دور انتشار القوة العسكرية الصريحة بعد أن تكون القوات المقابلة قد بلغت نقطة الانهيار. بهذا الأسلوب تمكنت روسيا من اقتطاع اجزاء من جمهورية جورجيا خلال العام 2008 ومن اوكرانيا بدءاً من العام 2014، وبهذه الطريقة ذاتها تمكنت من تحويل سوريا الى دولة تابعة بدءاً من العام 2015.
لا حاجة بنا للقول أن روسيا قد نشرت عناصر من ستراتيجيتها الجديدة للتأثير في أميركا وعموم أوروبا، فقامت بضخ الأموال والدعاية إبان الحملات الانتخابية في أميركا وبريطانيا، ناهيك عن بلدان أخرى، ضمن محاولة لبذر الشقاق السياسي واضعاف التحالفات الغربية المعارضة للتمدد الروسي. والرئيس ترامب، الذي كان من المنتفعين الرئيسين من عمليات التغلغل الروسية، لم يحمل على حلف الناتو بأسوأ ما لديه من عبارات بلا سبب.
خلال ذلك كانت حكومة الصين تدفع الأموال وتمارس التخويف وتسوق الحجج من اجل توسيع نفوذ بلادها. فقد ارسلت بكين مليشياتها في زوارق صيادي السمك كي يكونوا ذريعتها للمطالبة بجزر بحر الصين، بعد ذلك جرفت الحيود المرجانية الهشة وراحت تبني قواعد لها على تلك الجزر، وفي الوقت نفسه كان خطابها على المنابر الدولية ينادي بأن الاستيلاء على الأراضي أمر مشروع لا تشوبه
شائبة.
في الوقت نفسه تأتي مبادرة الحزب الشيوعي الصيني، المسماة "الحزام والطريق"، بقيمة ترليونات عدة من الدولارات لتعزز إقامة الطرق وخطوط السكك والموانئ وغير ذلك من مشاريع البنى التحتية في أنحاء شتى من آسيا وأوروبا وافريقيا وتعطي بكين ثقلاً وحضوراً لدى حكومات الدول في القارات الثلاث. اما حكومة الولايات المتحدة فليست لديها خطة واضحة لمواجهة هذه الاساليب الجديدة في كسب المعارك. البنتاغون اليوم مهووس بالحديث عن "صدام القوى العظمى" بين الدول العملاقة ذات الجيوش الجبارة. 
لكن المسؤولين الأميركيين يخوضون في هذه المواضيع من دون إدراك لشدّة تعقيد التحديات الستراتيجية بمداها الكامل في هذا الزمن، حيث يقع الصراع والتنافس غالباً بأساليب ناعمة لا تكاد تستشعر، لا سيما في ميادين النفوذ والايديولوجيا." هذ هو ما تقوله "إيلسا كانيا" التي تشغل منصب زميل في مركز الأمن الأميركي الجديد بواشنطن.
 
الحرب الألكترونية
ثمة أمر بات واضحاً لا سبيل للجدال فيه وهو أن جبروت أميركا العسكري الحالي ليس مؤهلاً للمهمة المطلوبة منه. يقول مكفيت: "جيوشنا المتفوقة لم تردع روسيا عن التوجه الى جورجيا وأوكرانيا وسوريا، والصين تغنم بحر الصين الجنوبي من دون الحاجة لاستخدام حاملة طائرات 
واحدة."
هناك من القادة العسكريين الأميركيين من يشعر بالحاجة الى القيام بإصلاحات، ولكن حتى أفصح الداعين للتغيير في البنتاغون واكثرهم جرأة لا يستطيع المطالبة بأكثر من بعض التعديلات الداخلية المتواضعة، مثل تحويل الأموال والطاقات من حساب الى حساب ومن مؤسسة الى مؤسسة.
اشتهر الجنرال "ديفد برغر"، وهو القائد الجديد لفيلق المارينز الأميركي، بأنه من المجددين الرافضين للأساليب التقليدية، بيد أن أقصى ما تصل اليه تصورات هذا الرجل حول كيفية كسب حروب المستقبل تتلخص في الاستعاضة عن بعض مركبات الفيلق التي يقودها اشخاص بطائرات مسيرة بلا طيار. حتى لو تبنى المارينز هذه التغييرات فإنهم سيبقون يعدون أنفسهم لنوعية من الحروب التي يتضاءل احتمال وقوعها يوماً بعد يوم وربما لا تقع مطلقاً.
يقول "بيتر سنغر"، وهو محلل من مؤسسة "نيو أميركا" بواشنطن ومؤلف كتاب "كأنها الحرب"، أن الجيش الأميركي قد مر بهذه التجربة من قبل وكانت النتائج وبالاً عليه. يمضي مستطرداً: "لعل أنسب مثل مناظر هو أعوام الثلاثينيات حين اعتقد كثير من العاملين في البحرية الأميركية أنهم قد احسنوا تبني التكنولوجيا الحديثة، التي تمثلت يومها بالطائرات كسلاح جديد، حين زودوا كل سفينة حربية بطائرة في المؤخرة ركّبت لها طوافات بدل العجلات. في حقيقة الأمر أنهم كانوا يقضمون الحواف من دون أن يصيبوا قلب المسألة في حين أن التغيير الكبير كان يتجلى للعيان." فبعد سنوات قليلة من ذلك هاجمت الطائرات اليابانية ميناء "بيرل هاربر" وأغرقت معظم السفن التابعة لاسطول المحيط الهادئ. 
يقول مكفيت: "لسنا بحاجة لشراء مزيد من الدبابات والطائرات والغواصات، ما نحتاج اليه هو إيجاد وسائل تمكننا من كسر حدة المعلومات 
الستراتيجية المضرّة."
قد يكون معنى هذا الكلام بالنسبة للبنتاغون اجراء عملية إعادة تنظيم جذرية ليحل الكتاب ومحللو الشفرة والمتخصصون بالشبكات والبارعون في فنون الحرب الالكترونية محل الطيارين وقوات المشاة وطواقم السفن. إلا ان الجيش الأميركي، بوصفه واحدا من كبريات البيروقراطيات في العالم، سوف يقاوم اجراء اية تغييرات سريعة من هذا النوع.
 
تغير العقلية
تقول "تارا ويلر"، وهي خبيرة من مؤسسة "نيو أميركا" للأمن السيبراني: "من طبع البشر أن يناضلوا للتمسك بما احرزوه. إن ابرع القادة والمقاتلين في العالم موجودون في القوات المسلحة الأميركية، وثمة صراع سايكولوجي جذري جسيم سيوقعهم فيه من يدعوهم لخوض الحروب بالتخلي عن الطاقة والفرق المتخصصة والميزانيات الضخمة وكل الجهود التي انفقت للوصول بالبناء الى الحالة الراهنة ومستوى الاستعداد. لا أحد يحب أن يسمع بأن كل ما صنعه كان عبثاً على طول الطريق وهدراً للأموال." 
لا ننكر ان حرب المعلومات مملّة، فمنظر الطيارين وهم في مقاتلاتهم رائع على اشرطة الفيديو، أما منظر "الهاكرز" امام شاشاتهم فليس كذلك، وهذا يجعل عصر التأهب الدفاعي الجديد صعب الاستساغة لدى عامة الناس وحتى الكونغرس.
لهذا السبب علينا ألا نتوقع استجابات متحمسة من واشنطن مهما نفخنا في النفير محذرين من عواقب النجاحات المتلاحقة التي يسجلها الخبراء الروس والصينيون في ميادين حرب من نوع جديد. لن تحدث تلك الاستجابة حتى يقع حدث كارثي فيهز الأميركيين هزة تجعلهم يفيقون من يقينهم بأن الولايات المتحدة لابد أن تكون المنتصرة في أي حرب تخوضها لا محالة، فالحروب عندهم تعني دبابات تطلق نيرانها على دبابات أخرى، والاميركيون بارعون في هذا.
يقول مكفيت: "من الصعب جداً على أمم اعتادت الانتصار ان تغير عقليتها ستراتيجياً. فمثل هذه الأمم يجب أن تخسر معركة، أو ربما حرباً كاملة، قبل أن تقتنع بأنها لم تعد المنصورة المظفرة كما كانت تعتقد.. مثل هذه الأمم لا بد لها من خسارة دماء كثيرة."
 
عن مجلة "ديلي بيست" الأميركية