وإنْ جــاءت مـتــأخـرة

آراء 2020/02/19
...

حسين الذكر
بمعزل عمّا آل إليه المشهد التظاهري المنطلق بداية تشرين الأول 2019، وما قيل عنه، أو أُلصق به، جرّاء تدهور أمني وإضرار بنيوي واجتماعي، خلّف قتلا وعنفا وعنفا مضادّا، مع إصرار على حضور ميداني سلمي "خاصة" مبارَكا من المرجعية، ومساندا من أغلب القوى السياسية في الداخل والخارج. 
لكنّ ثمة اتفاقا شعبيا ورسميا على أن الحركة المطلبية العراقية لم تكن محظ صدفة أو بترتيب خارجي وتحريك داخلي، مع إيماننا المطلق بأن للسياسة أنفا أطول ممّا يظهر بالمشهد، إلّا أن تعبير الحراك واضح صادح ينمّ عن مطالب شعبية ملت واقع الحال الذي عاشته منذ تغيرات نيسان 2003 حتى الآن. و على الرغم من مرور أكثر من دورة انتخابية وحكومة رافقها هدر مليارات الدولارات التي لم تغير من واقع الحال شيء، بل ساءت أكثر المفاصل التحتية التي لولا وجودها قبل التغيير لافتضح العهد الموسوم بالديمقراطي أكثر ممّا هو عليه الآن، فأغلب المشاريع الخدمية، في العاصمة بغداد وبقية المحافظات، عدا كردستان بوجها النموذجي، لم تشهد العاصمة وبقية المحافظات ما يشدّ الانتباه ويعزز الخدمات ولا يشم منه رائحة أي أثر حضاري ولا قيمي لا سيّما بعد أن شهد تراجعا خطيرا غير مسبوق تجسّد بانفلات وفساد لم يعد يخشى رقابة أو نزاهة أو اجراءات. 
في ظل هذا الحراك المتواصل والدعم المرجعي وقوى الداخل والخارج، خصوصا ما يتعلق بالمطالب السلمية، فإن تغييرا جوهريا مطلوبا على شكل وآليات عمل الحكومة المقبلة، التي يجب أن تتخلص من ربقة الأحزاب وقيود الكتل البرلمانية، التي أخفقت بشكل واضح طوال عقد ونصف من سنوات خلت، ممّا أفضى إلى استقالة حكومة السيد عبد المهدي ومخاض طويل رافقه القلق وتدهور الأمن وأجندات وستائر، أفرزت محصلة قناعاتها عن ضرورة تشكيل حكومة جديدة ينتظر ولادتها خارج نص سلطة الأحزاب ومنظومة عمل البرلمان بآلياته السابقة التي رسخت مفاهيم المحاصصة والطائفية والعشائرية والحزبية والكتلوية والشخصنة الطاغية على كل قيم المواطنة والإحساس بالمسؤولية على حساب وطن وشعب يستحق العيش بشكل أفضل ممّا هو عليه، بعد أن حباه الله بإرث وامكانات وموارد يحسده عليها الآخرون.
حكومة السيد محمد توفيق علاوي، على الرغم ممّا قيل وتداول عبر وسائل التواصل بالتحليل والتوقع أو الدعاية، فإنها على ما يبدو ستولد خلاف ذلك وبصورة قد تجلب الانتباه وربما ترسم أفق الأمنيات وتصعد سقف الطموحات، فشعارات التظاهر كانت مدوية تحت عنوان وطن، وهذا الوطن ينبغي أن يكون ندّا لحضارة الآخرين ممّن نتفوق عليهم بكل شيء، وذلك لا يتحقق إلّا بدرجة من الاستقلال مقبولة خارج هيمنة القوى الإقليمية والدولية ومشروطة بسياسة انفتاح وصداقة وتعاون دولي معززة بشاعرات سلام وسلوكيات أسلم يمكن لها أن تمهد أرضية العودة العراقية للمجتمع الدولي بعد عقود طويلة من الحروب والاقتتال والفساد والخلاف.
قد لا تستطع حكومة السيد علاوي أن تحقق كل ما تريد الجماهير إذ إن زمنها ومهمتها محدد، لكنها يمكن لها أن تكون استثنائية بمخاض يستبطن ما مضى، ليس بالمظاهرات حسب، بل كل الآمال والطموحات المزهقة منذ نصف قرن أو أكثر، التي كانت تريد وتنادي بوطن لا تمييز ولا فوراق فيه على أيّة أسس مذهبية أو حزبية أو قومية، وإذا ما تحقق هذا المطلب ستكون الحقبة العلّاوية تاريخية وإن جاءت متاخرة.