ليس كلّ شيء ينطبق عليه "صورني وآني ما أدري". هناك أشياء تتطلب التصوير والترويج والتأمّل معا، بغض النظر عن كل ما يقال على طريقتنا المعروفة التي ملخصها: "حب واحكي واكره واحكي". الشاب حميد من أهالي الناصرية، وأحد متظاهريها، اختار رئيس البرلمان محمد الحلبوسي لكي يوجه له رسالته. حميد شاب عفوي بسيط، وربما لا يفهم كثيرا في السياسة، وليس مطلوبا منه ذلك، طالما بدا أنّه يفهم كثيرا في قضايا الوطن، بل القضية الأهم وهي المواطنة، التي باتت موضع خلاف إن كان لجهة التوصيف أو الانتماء. رسالة حميد إلى رئيس برلمان العراق، الشاب أيضا، حسب معايير اختيار المناصب في العراق، ربما وجد فيها فرصة للتعبير عمّا يريد قوله قد لا تتوفر في الجيل الأكبر سنّاً من سياسيي العراق في هذه المرحلة.
ومع أن الناصرية التي أشعلت، على مدى الشهور الماضية، جذوة الانتفاضة الجماهيرية الشبابية لا تحتاج إلى من ينقل رسالتها إلى أيّ مسؤول، لكن حميد اختار لحظة فارقة من تاريخ الانتفاضة لكي يعبر عمّا يجول في خاطره وخاطر جيل الشباب الذي يمثله. ولعل المسألة الأهم والبالغة الأهمية أن حراك الناصرية يكاد يكون هو الحراك الأهم على صعيد منح التظاهرات محتواها الاجتماعي المسكوت عنه إلى حد كبير. وبالمقارنة مع بغداد العاصمة، المدينة المترامية الأطراف، التي يقطنها نحو 10 ملايين نسمة فضلا عن تنوعها، فإن الناصرية، ذات اللون الواحد تقريبا، كانت هي السبّاقة في أن تمنح الانتفاضة هويتها الوطنية الأكثر
تجليا.
وفي هذا السياق تأتي رسالة حميد العفوية والعميقة معا في كل مدلولاتها ومحتوياتها حين اختار محمد الحلبوسي، رئيس مجلس النواب، وابن الأنبار، لكي يضعه، أولا، أمام مسؤولياته في المرحلة الراهنة، ولكي يصوغ معه رسالة عراقية موحدة خاطبت أهالي الأنبار بلغة بسيطة شكلا، عميقة من حيث الجوهر، بما في ذلك المفردات المستخدمة وطريقة لفظها بالإضافة، إلى طريقة تصوير الفيديو وزوايا التصوير التي وصلت الى الجميع من دون استئذان. الأهم أن حميد ابن الناصرية، وأحد أشهر متظاهريها، حين اختار الحلبوسي، ابن الأنبار، ورئيس البرلمان، فإنّه أراد ردم الهوّة ليس بين المتظاهرين والدولة أو السلطة حتى بافتراض صعوبة ردمها لأسباب موضوعية معروفة، فإن الأهم بالنسبه له ردم أيّة فجوة مجتمعية يمكن أن يراهن عليها الأعداء لمنح هذه الانتفاضة هوية ذات توصيف معين. ربما يقول بعضهم من أين لهذا الشاب البسيط كل هذه القدرات التي يتفذلك بها كاتب المقال حتى يردم فجوات وهوات عميقة، وقد تعمقت أكثر بعد التظاهرات؟ أقول: حميد عفوي السلوك لكنه عميق الرؤية السياسية، لأنّه متظاهر منذ أول يوم التظاهرات ولم يتراجع. كما أنّ ما عبرعنه من كلمات بدت قوية في مفعولها السياسي لأصحاب القرار، وهو أمر في غاية الأهمية اليوم. ثم إنّ اختيار حميد الحلبوسي على صعيد توجيه رسالته وليس الدولة عبر الحكومة بوصفها الجهة الأولى المكلفة بتنفيذ مطالب المتظاهرين، إنّما جاء مقصودا تماما، فمطالب المتظاهرين لم تعد بحاجة لأحد لكي يوصلها إلى أي مسؤول مهما كبر وعلا شأنه، لا سيّما بعد أن حققت الانتفاضة منجزات ما كان يمكن للحكومة أو البرلمان تحقيقها في هذا الوقت لولاها. لكنه اختار الحلبوسي لكي يقول إنّ رسالتنا عراقية من ساحة الحبوبي في الناصرية إلى الشهداء في النجف إلى التحرير في بغداد إلى أيّة بقعة في الأنبار أو عموم الغربية وكردستان. ميزة الحلبوسي أنّه استجاب بسرعة فتحقق الهدف المشترك.