يحاول العقل التقليدي دائما الاستعانة بمعارفه لفهم الواقع، ومعارفه هذه خليط من تجارب ومشاهدات وقراءات وتخيلات أيضا، والعقل المتطرّف في التمسك بتقاليده سيتهم كلَّ ما لا يتطابق مع معارفه بأنّه غير عقلاني ويرفض معرفة الواقع، هذا الواقع المتحرّك بسرعة صادمة، بينما القضية المفصليّة هنا تتعلق بمدى واقعية عقله هو وفيما اذا كان هذا العقل انتهازيا وتجزيئيا يفصّل المواقف بحسب المصالح ويرفض أي واقع لا ينسجم مع مصالحه او يعرضها للخطر، من هذه النقطة يمكن فهم الممانعة التي تبديها القوى السياسية تجاه التعامل بجدية مع التظاهرات والمتظاهرين في العراق.
العقل التقليدي يفترض أن كل تظاهرة لها جهة منظمة معروفة وفيها قيادة محددة ولها مطالب يجب أيضا أن تكون «واقعية جدا» وإلا صارت التظاهرات والثورة بلا قضية او حراك تسيطر عليه أجندات خارجية، وفي الجدال الواقعي المألوف في عقمه ولحسم القضية مبكرا تعترف القوى السياسية والشخصيات المعترضة على التظاهرات بوجود أخطاء وتقصير وفساد وفشل لكنّها لاتفعل شيئا تجاه هذه القائمة القاتلة ولا تقترح حلولا لها بل تقفز على كل ذلك وتطلب من المتظاهرين حل قائمة بمشاكل تفترضها هي، مشاكل من نوع، من أنتم؟ من هم قادتكم؟ لماذا لا تتفاوضون معنا؟ وتعد القوى والشخصيات التقليدية كل رفض للتعامل مع هذه الاسئلة كمبرر لتجاهل وجود حراك جماهيري واسع ولتستمر في إدارة الامور وكأن شيئا لم يكن.
لايريد العقل التقليدي الفصل بين المنافسة السياسية والاحتجاج الاجتماعي لكتلة بشرية كبيرة لايريد أفرادها الوصول الى السلطة قدر ما يريدون تحسين ظروف معيشتهم والحصول على نظام حياة عادل وبعدما تبيّن أنّ الطرق التقليدية للسعي الى ذلك تعرضت للتحريف والتزييف من قبل القوى التقليدية يضطر المجتمع الى ابتكار طرق غير تقليدية للتعبير عن مطالبه، تجاهل القوى الحاكمة للتعبير الاجتماعي الجديد وإصرارها على التمسّك بنمط إدائها التدميري قد يدفع بجزء من المجتمع الى منهج ثوري عدمي بلا برامج ربما نظرا لخلو الشارع من قوى سياسية ثورية او اصلاحية صادقة، هنا تكون قوى السلطة التقليدية، وبالمعنى الواسع لكلمة السلطة (حكم ومعارضة، دولة ومجتمع، دنيا ودين)، هي من فتحت الباب للقوى الاجنبية ولقوى التطرف الداخلي للتدخل في إدارة العمل الاحتجاجي، وبين قوى السلطة من يتمنى حدوث ذلك فعلا ليحصل على فرصة استخدام العنف المطلق وتحقيق مكاسب.
توجد طرق تقليدية كثيرة للتخلص من الاحتجاجات، من بث الفرقة بين المحتجين الى تشويه السمعة ودسّ العنفيين وتوزيع الاتهامات وافتعال احداث خطيرة وطرح قضايا بديلة، وهي قد تسهم في إضعاف او ربما انهاء الاحتجاجات لكن مع بقاء الأسباب التي دفعت الناس الى الاحتجاج يجب علينا ان نتوقع موجات احتجاج قادمة أكثر خطرا وعنفا وتطرفا في المطالب والوسائل. على القوى التقليدية أن تتفهم فعلا لا قولا ظهور عقل جديد في المجتمع لا يقتصر على فئة عمرية محددة (يوجد شباب تقليديون وشيوخ ثوريون) وهو ليس مجرد نتاج للانفتاح او تطور تقنيات التواصل بل إنّ ظهوره هو رد فعل على مماطلات وتسويفات وتهرّب وفشل وفساد العقل التقليدي السياسي والثقافي والمجتمعي والمرور بمسيرة آلام طويلة والتفاعل الحقيقي مع العصر الذي يعيشه، وهذا العقل الجديد قادر دائما على ابتكار المفاجئ والمدهش والمناقض للتصورات التقليدية القديمة، له حساباته المختلفة وقيمه الجديدة وهو عقل شجاع في التعامل مع الاتهامات والمخاوف، عقل نحتاج لدراسته وليس لقمعه لمجرد أنّ العقل التقليدي لايفهمه.